بانوراما المأساة العراقية في رواية ( المرفأ المفقود ) كفاح الزهاوي /  قراءة /  جمعة عبدالله

هيئة التحرير28 يونيو 2025آخر تحديث :
بانوراما المأساة العراقية في رواية ( المرفأ المفقود ) كفاح الزهاوي /  قراءة /  جمعة عبدالله

   براعة المتن الروائي يشتغل على عوالم مختلفة , في أحلك الفترات المظلمة التي مرت على العراق , التي تميزت بالعنف الدموي المفرط ونهج الإرهاب المشدد باعلى درجات البطش  , الذي يمثل قوام الدولة البوليسية الفاشية , في اطلاق العنان الى رجال الامن , في بث الرعب والخوف , كما هو في  فترة حكم البعث , وتوج الى اعلى القبضة الحديدية , بعد تولي صدام حسين ,  وازاحة الرئيس احمد حسن البكر ,  وتصفية تقريبا نصف اعضاء القيادة القطرية ومئات الكوادر المتقدمة في قاعة الخلد , او في مجزرة قاعة الخلد , ولم يقتصر التصفية والابادة على اعضاء حزب البعث , الذين  عارضوا اغتصاب السلطة من قبل  المجرم صدام حسين , بل سبقتها حملات الاعتقالات المستمرة ضد أعضاء الحزب الشيوعي واليسار العراقي عامة  , في زجهم  في الاعتقالات والسجون ووضعهم تحت المراقبة الامنية  , وفي ممارسة التعذيب الوحشي , التي تنتهي الى  الاعدامات الفورية دون محاكمات , او محاكمات صورية سريعة  , هذه فترات الرعب البعثي  ,  سجلت أحداثها الدقيقة في صياغة الأحداث السردية  في المتن الروائي , على لسان السارد العليم ( نضال ) وهو يعود بذاكرته في تسلسل سيرة حياته منذ طفولته  في إحدى المناطق الكردية , التي تميزت بالفقر وصعوبة شظف المعاناة  المعيشية للفئات الفقيرة الكادحة خاصة , وبعدها  انتقال عائلته الى العاصمة , والحياة تسير من السيء الى الاسوأ في تهجير الاكراد  , وزادت اكثر وحشية في زمن البعث , في حملات تهجير , تمثلت اما رميهم في الصحراء  , أو  رميهم خارج الحدود , في اسلوب هجين خالي من ادنى الشروط الانسانية , بل كان هدفها ابادة القومية الكردية بكل الاساليب الفاشية والعنصرية , وتوجت بأستخدام السلاح الكيمياوي , وشن الحروب الخارجية في اعلان الحرب ضد ايران , وممارسة  الارهاب  بالقبضة الامنية ,  تنال كل مواطن لم ينتمي الى حزب البعث , او عليه شبهات بالانتماء الى الاحزاب المعارضة ,  حول الحياة العامة الى الرصد  والتنكيل ,  لكل من يكون خارج أسطبل البعث , هذا التوثيق الروائي ,  يمثل شواهد شاخصة في التفاصيل اليومية , كما تناولت المسائل الاجتماعية في العقلية بالايمان بالدين , والاعتقاد  في الخرافات وحكايات الشياطين  , الذين يجتمعون في جنح الليل في الازقة المظلمة للبيئة الفقيرة المعدمة , وفي تناول مجريات الامور المعاشية في اسلوب  واقعي هادف ورصين   , كما  عاشها فعلياً ( نضال ) وتجرع علقمها المر , منذ طفولته ,  والى مراحل حياته الاخرى , في التفاصيل اليومية الدقيقة , التي لاتخلو من انتقاد حاد , ومنصات السخرية المضحكة والتراجيدية , اي بين الملهاة والمأساة , كما ان ( نضال ) شارك في خضم الاحداث السياسية والحزبية بنشاط , رغم الاخطار الجسيمة التي واجهها من قبل  اعضاء الاتحاد الوطني لحزب البعث , او من وكلاء الامن , الذين وضعوه تحت مجهر المراقبة والترصد   في حياته اليومية , ان معالم السرد الروائي كثيرة ومتشعبة في الشخوص المحورية  , والشخوص الفرعية , هذا الكم الكبير من احداث المتن الروائي , يمكن اجمالها في خيوطها الاساسية .

 1- نضال : تقمص دور السارد العليم المتكلم

 نشأته في بيئة كردية فقيرة تعاني البؤس والظروف المعاشية الصعبة , تربى في عائلة كبيرة العدد ( ثمانية اشقاء وثلاث شقيقات ) , ترعرع تحت رعاية أمه بالحب والحنان , كانت بحق  كادحة ومثابرة , وتفسر الاشياء والاحداث بذكاء وروية رغم إنها  ( إن أمي كانت امرأة أمية , إلا أنها كانت واعية ذهنياً , ومتنورة  , مدرسة خالدة نابضة بالحياة , متسامحة , لا تحمل أية ضغينة تجاه الآخرين , كنت أصارحها بكل شيء ) ص28 ,  إلا أنها  كان يساورها القلق والخوف على إخوته الكبار , بسبب انتماءاتهم الحزبية للحزب الشيوعي , ويصيبها بالرعب من مداهمات الحرس القومي لمنزلهم , خشية الاعتقال بعد انقلابهم الدموي المشؤوم , منذ الصغر بدأ شغفه وحبه الشديد الى عالم السينما والفن , ويواظب  في الحضور في دار السينما الوحيدة في مدينته , وبعد ثورة 14 تموز أصبحت ثلاث دور سينمائية ,  يرتادها الناس بشغف متواصل , منذ الصغر تشبع ببعض   الخرافات واساطير الجن والشياطين , التي تتجمع في جنح الليل  في الازقة المظلمة , لخطف الاطفال  , ويوماً وقع في إشكال صعب , مر في زقاق مظلم متجهاً الى منزله , وبدأت تساوره المخاوف والقلق من خشية اعتراضه وخطفه في المكان المظلم والموحش وهو يتبول في مكان مظلم  ( وشعر بالارتباك في هذه اللحظة المصيرية , وكطفل , وقع في الخطيئة , ينبغي أن يعاقب عليها, حيث أني عملت شيئاً مخالفاً للعقيدة , حين لقنتني والدتي ألا أتبول في سواد الليل , لان ذلك كما قالت : ( يؤدي الى تجمع الشياطين حولي ) ومع ذلك عصيت كلام أمي , بل ربما هذا العصيان , بدعوته هذا قد يلحق مصائب الدنيا وكوارثها , فكل ما يصيبنا من سوء الحظ  فهو من رجس الشيطان ) ص44  , لكن كظم خوفه وقلقه , وواصل تبوله , انهى مهمته بصعوبة وواصل مسيرته نحو بيته , رغم نباح الكلاب تلاحقه , لكنه شعر بأنه انتصر على الشيطان وخرافاته المخيفة , وحينما دخل البيت ,  ورى الى أمه  انجازه العظيم , في معركته الوهمية مع مخلوقات غير مرئية , نعم انها معجزة في تحدي الشيطان . انتقلت عائلته الى العاصمة ودخل المدرسة الابتدائية , وكان يشكو من النطق العربي الصحيح , فكان محل سخرية وتندر من التلاميذ , لذلك اشتكى احد اصدقائه الى المعلم بقوله :  أن نضال , طالب جديد من القومية الكردية, لا يلفظ الكلمات بصورة صحيحة , وهذا الدافع عزم على الدراسة والموظبة وتعلم النطق باللغة  العربية بشكل صحيح , حتى نال التفوق الأول في مدرسته , وبعدها دخل المدرسة المتوسطة , وتلمس  الفرق الكبر بين المدرسين  , منهم من يؤدي  مهمته الانسانية ,  بجدارة ومسؤولية وينال احترام الطلبة ,  ومنهم العكس ذلك ,  يتعامل بخشونة ولا يقبل اية ملاحظة , يواجهها بالحقد والكراهية , مثل الاستاذ ( فاضل ) حين ابدأ حد الطلبة ملاحظة , بأنه يلقي الدرس بالاستنساخ الحرفي من الكتاب ,  دون ان يزيد او ينقص حرفاً , فظهرت ملامح التشنج والعداء من الاستاذ , وبدأ يضرب  بشكل  عدواني مبرح , كأنه  في حلبة تمرين لجسد الطالب المسكين , اشبعه ضرباً ورفساً في كل خلية من جسمه , كأنها صورة طبق الاصل من التعذيب الوحشي من الأجهزة الامنية البعثية , في التعذيب والرمي في احواض التيزاب للمعارضين بقيادة مجرم العصر  المجرم ( ناظم كزار ) في قصر النهاية , والذي قتله صدام حسين شخصياً بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة , . وفي مرحلة الإعدادية بدأ حبه الشديد والطاغي في قراءة الكتب الأدبية والسياسية , اضافة عشقه الى السينما والفن كذلك حبه في الرياضة في مجال العاب الساحة والميدان  , وكذلك شارك في النشاطات الحزبية للحزب الشيوعي , رغم ان هناك الجبهة الوطنية بين الحزبين البعث والشيوعي , لكنها كانت فخ ومصيدة في تصفية الحزب  الشيوعي , بفتح المعتقلات والسجون ,  والمتابعة  الامنية في قبضتها الحديدية , وتفاقمت الازمة السياسية في عام 1979  , حين استولى صدام حسين على  السلطة ,  في إجبار الرئيس أحمد حسن البكر على التنحي ,  وتصفية بالاعدام تقريباً نصف اعضاء القيادة القطرية  , ومئات من الكوادر المتقدمة لحزب البعث , جمعهم في قاعة الخلد , وعرفت         بـ مجزرة قاعة الخلد , لإشباع غرائزه  التسلطية ( كان طموحه  النرجسي ان يتوج نفسه بطلاً للامة العربية , أو حتى القائد الاوحد للامة برمتها , وكان على استعداد للتضحية بأرواح الناس , ومستقبل البلاد لتحقيق أهدافه الشريرة ومن اجل الوصول الى هذا الطموح , كان لابد من البحث عن وسيلة تمكنه من تحقيق ذلك , ومن هنا بدأت معاناة الناس في تصاعد , عندما هام القائد المفدى الشروع في تنفيذ مآربه الشخصية ) ص127 . وكذلك  لشخصيته المتكبرة بالغطرسة المفرطة , ان يشن حرب مدمرة مع إيران عام 1980  ( اندلعت نيران الحرب ضد ايران عام 1980 التي اشعلها الرئيس العراقي صدام حسين , واصرار الخميني فيما بعد على عدم وقف هذا الدمار والخراب , الذي استمر ثمان سنوات من  الالم الاذى , واودت بحياة اكثر من مليون إنسان بين قتيل وجريح ومعوق , على الرغم من كل المآسي ,  إلا أن صدام لم يتعظ من خسارته الاولى , بل ادخل جيشه في حرب محبطة اخرى خاسرة مع دولة الكويت , فأهلكت كاهل الدولة التي دفع العراقيون ضريبة ذلك , بسبب عنجهية وغطرسة رأس النظام , عن طريق تجويع الشعب العراقي في حصار ظالم ) ص129 . دخل ( نضال ) في أول مغامرة عشقية في الغرام  , لكن نتائجها كانت  فاشلة ,  في مواصلة الحب  فانقطعت العلاقة بين الجانبين. وحين انهى المدرسة  الاعدادية , واراد ان يواصل تحصيله الدراسي بالدخول الى معهد الطب الفني , وجد عقبة تحول دون قبوله , وهي ينبغي ان يحصل تزكية من الاتحاد الوطني البعثي , حاول ان يقنعهم بأنه مستقل ليس له علاقة بالسياسة لكن لم يقتنعوا بكلامه , وطالبوا منه بالتوقيع  على استمارة تعهد ,  بأنه  لم ينتمي الى اي نشاط حزبي عدا حزب البعث , رفض التوقيع على الاستمارة  بعدم  الانتماء إلى اي حزب آخر  , وإذا أخل بالتعهد , سيعرض نفسه لعقاب شديد , ورفض التوقيع بذريعة  ( قلت :

– ولكن تحت هذا السطر ارى الورقة فارغة , من يضمن لي انك لا تملي الاستمارة اني مديون بمليون دينار بعد مغادرتي, وانا فعلاً وقعت على الورقة ) ص154 ولكن بعد تدخلات  جانبية , تم قبوله  في معهد الطب الفني , لكن وضع تحت مجهر المراقبة الامنية , وعند انتهاء فترة الدراسة والتخرج , لم يجد اسمه ضمن قائمة التعيين , فتأخر تعينه ثماني شهور ,  زادت تعقيدات الأزمة السياسية نحو الاسوأ ,  زادت حملات الاعتقال والمطاردة ضد أعضاء الحزب الشيوعي , وجاء اعتقال شقيقه ( حاذق ) ادرك بانه الهدف المقبل في الاعتقال , طلبت  أمه ان  يهرب وينجو بنفسه  والدموع تغرق عينيها  (- اهرب يا بني لا احتمل خسارتك ايضاً .

وأضافت :

– هذه مملكة الرعب, حكم القمع , واغتصاب الحريات) ص226 . فاستغل الوقت المناسب للهروب من مملكة الرعب والموت .

 2 – حاذق : أعدم عام 1985 . سيرته الحياتية , أنه أصغر أشقاء ( نضال ) شاب وسيم حلو المعشر بين الناس والطلبة  , يبلغ من العمر ثلاث وعشرين عاماً . طالب جامعي في السنة الاخيرة من كلية الطب , يتميز بمواهب متعددة , في مجال الموسيقى والرسم والأدب والصحافة , وناشط في الحزب الشيوعي, يمتلك الوعي والحكمة وصفاء الذهن , يتحمل بصبر  باستمرار استفزازات الاتحاد الوطني , وكان مراقب تحت عيون رجال الأمن , ينتظرون الفرصة السانحة لنهش لحمه  , كالذئاب المسعورة .خلال تصفية حزب  أعضاء الحزب الشيوعي جاء دوره في الاعتقال ,  لكن بحجة سخيفة , بأنه مهرب , فاحتجت أمه بالغضب في وجه رجال الأمن ( أبني طالب جامعي ) غيروا لهجتهم في التعامل بقول أحد رجال الأمن ( – وداعتج خمس  دقائق ونرجعه  واخذي من هالشوارب ) 271 . لكن أدرك حاذق انه الوداع الاخير  ,   صوب كلامه صوب  أمه بقوله ( يا أمي …  لا تفكري بي بعد اليوم ) فانفجرت بالبكاء المر ,  وشعرت بأن السماء ملبدة بالغيوم السوداء المشؤومة , هذه  تعبر عن حالة  الإرهاب المفرط  للدولة البوليسية  ( عبرت تلك الأساليب البربرية عن ايديولوجية فاشية مدمرة ترمي الى افراغ الانسان , من بوتقة انسانية وقيمة نبيلة , وجعله آلة جامدة غير قادرة على التفكير , سوى ترديد نغمة واحدة , يحيا قائد الضرورة ) ص225 . وفي عام 1985 في ليلة شتوية باردة كانت العائلة مجتمعة  حول ( صوبة علاء الدين القديمة ) طرق بابهم احد رجال الامن بابهم وابلغهم  , بأن  عندهم موعد  في سجن ابو غريب  لمواجهة  ابنهم حاذق . تيقنت الام بأن هذا الموعد المشؤوم يدل على إعدام حاذق , ولم تنم العائلة لك الليلة  في هواجس  الخوف والقلق , وعندما  ذهبوا في الصباح  تيقنوا خبر إعدام حاذق في   استلام جثته  , فصرخت الام بكل شجاعة وجسارة في وجه حراس السجن بقولها ( – سوف ارى عدي وقصي في هذا التابوت يوما ما يا أوغاد ؟ ) ص289 .

 3 – سرقة المسدس من رجل الامن :  نتيجة منطقية لرد الفعل والعمل تجاه الاساليب البطش والارهاب المفرط ضد اليسار عامة .  تنتج ردات فعل متطرفة نتيجة الشحن الفعل الثوري ( – الحياة تعد ساحة حرب , تتطلب من الإنسان المجازفة , في اختيار خططه , وبراعته , والمجازفة لا تعني ان التجربة قد تمضي الى تحقيق الهدف المنشود, وإنما هي خطوة نحو تحقيق  الأفضل ) ص132 . والتشديد على الوعي في السلوك في الاختيار اللحظة المناسبة للفعل الثوري , جرى هذا النقاش الساخن بين الأصدقاء  في جلسة شرب في نادي ليلي ,  يرتديه ايضاً بعض رجال الأمن , خلال  نقاشهم  ,  لاحظ  أحدهم بأن  احد رجال الامن  ترك مسدسه على المغسلة ,  وتوجه نحو المرافق الصحية , فانتهز الفرصة الثمينة في سرقة المسدس ,  والخروج بسرعة من النادي الليالي ,  قبل وقوع المحظور وتكون العواقب وخيمة عليهم  , ولكن بعد التحري والمتابعة والتحقيقات الأمنية المتشددة , عرفوا السارق , والقيء القبض عليه ومات في التعذيب الوحشي , وبدأت ملاحقة أصدقاءه والمشاركين في عملية السرقة والتستر عليها , ومنهم ( نضال ) لكنه أنكر علاقته به  , لا من بعيد ولا من قريب , ولكن أخذ الاحتياطات الضرورية , لأنه وضع تحت عين المراقبة الامنية .

 

عاجل !!