اِسْتلابٌ! / قصة قصيرة / لطيف عبد سالم

هيئة التحريرمنذ ساعة واحدةآخر تحديث :
اِسْتلابٌ! / قصة قصيرة / لطيف عبد سالم

 لّا يَعُودُ إلَى مَنْزِلِه إلًا مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسَ، وَقَدْ غَدَا مِنْ فَرْط تَعَب النَّهَارِ مَنْهُوك القُوَى، فاِعْتادَ أنْ ينَامَ مُبَكِّرًا فِي أغْلَبِ الأيَّام، وَيستيقظ مَعَ غَبَشِ الفَجْر. 

 ذاتَ مَسَاءٍ وَقَدْ أنْهَكَهُ العَمَلُ، وَغَلَبَهُ النُعاسُ، وجد نَفْسه مَشْدُودًا إلى الارْتِمَاءِ علَى حَصِيرةٍ مُتَآكِلَةٍ، رَيْثَمَا تُنَهِّي زَوَّجْته سجرَ تَّنُّورهَا الطِيْنيّ، كَانَ علَى وَشْكِ الإغْفَاء عِنْدَمَا سَمِعَ صَّوتًا مَشْحُونًا بِقَدْرِ كَبِيرٍ مِنَ الإِزْدِرَاءِ يُنَادِيه باسمِه مِنْ خَارِجِ بَيْتِه(1).

 لَمْ يُخَالِجهُ أَدْنَى شَكٍّ فِي أنَّ صَاحِبَ الصَّوت هُوَ (السّركال)، دَبَّ الذُّعْرُ إلى نَفْسِه، وَاِستَحوَذَ الرُّعْب علَى زَوْجَتِهِ، نَهَضَ مِنْ مَكَانِهِ مَرْعُوبًا تكاد قَدَماه لَا تحملانه، وَزَوْجَتِه، التِي تَقِفُ بِجوارِ التَّنُّور تنظر إلَيْهِ باِنكسارٍ مَذْهُولَةُ فَاغِرَةُ فَاهَا، تَوَقَّفَ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَتَوَجَّه حَافِيَ القَدَمينِ نَحْوَ بَابِ مَنْزِلِه الطِيْنيّ، أزَاحَ بيدٍ مُرْتجِفَة السِّتَارَة النَسِيجيَّة القَدَيمَة، التِي جَعَلهَا سِّتْرًا لِعَائِلَتهِ، فَأُصَبِّحَ بِمُوَاجِهَةِ السركال مُحَاطًا بِثَلاثَةِ رِجالٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ، أَحَدُهُمَا يَحْمِلُ مِصْبَاحًا بَدَائِيًّا يَعْمَلُ بِاِسْتِخْدامِ مَصْدَر وَقُوِّد قَائِم عَلَى الزَّيْتِ(2).

اِعْتَرَاهُ فَزَعٌ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِن إِخْفاءِ اِضْطِرابِهِ، إذْ مِنْ دُوْنِ أنْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ التَّحِيَّة، سَأَلَهُ باِرْتِبَاكٍ:

– مَا الخبرُ.. مَا الخبرُ؟

بَعْدَ أَنْ اِسْتَبَدَّتْ بِهِ الْمَخَاوِفُ وَأَخَذَت مِنْهُ مَأْخَذًا، حَاوَلَ أنْ يَلْتَقِطَ أَنْفَاسَهُ بِصُعُوبَةٍ، وَبِتِلْقَائِيَّةِ وَعَفَوِيَّة الفَلَاَحَيْن الفُقَرَاء، الَّذين لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا البَحْثَ عَنْ لُقْمَةِ الْعَيْشِ الحَلَال، التِي تُعِينهُم عَلَى مُوَاجَهَةِ مَتَاعِبِ الْحَيَاةِ، كَلَّمَهُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ كَأَنَّهُ يَخْشَى أنْ يَسْمَعهُ أَحَدٌ:    

– مَاذَا تُرِيدُ..

ثُمَّ أَرْدَفَ قَائِلًا:   

– ماذا تُريدُ مِنْ إنْسَانٍ فَقِيْرٍ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا؟

أجَابَهُ السركال بِأُسْلُوبٍ فِجّ ومُنَفِّرٍ:

– المَحَفُوظُ (الشَّيخ) يطلب حُضُورك الآن.

تَمَلَّكَهُ الرُّعْبُ، خَالَجَ شُعُورَهُ خَوْفٌ شَدِيدٌ، صَمَّتَ بُرْهةً مِن هَوْلِ الصَّدْمة، تَمْتَم بَعْدَهَا بِصَوْتٍ غَلَبَت عَلَيْهِ مسحة مِنَ الإحْسَاسِ بالضِّيقِ وَالحَرج بِبِضْعِ كَلَمَّاتٍ؛ مُتَجَنْبًا شَرّ رُدُوده.

لَمْ يَفْهَم السركال مِنْ كَلَمَّاتِهِ شيئًا، ثَارَتْ حَفِيظَتَهُ، لَوَّحَ بِعَصَاً مِنَ الخَيْزُرَانِ اِعْتادَ عَلَى حَمْلِهَا، ثُمَّ نَهَرهُ قَائِلًا:     

– مَاذَا تَقُوْل أَيُّهَا الكَلْب.. كَأنكَ تَعْلَنُ العِصْيَان علَى أمْرِ الشَّيخ؟

 لَمْ يَجِدْ بُدًّاً مِنَ اللُّجُوءِ إلَى التَوَسُّلِ وَهُوَ يُقسِّم بأغلظِ الأيْمَان بَيْنَ يَدَيْهِ: أنَّهُ لَا يقصِّد أيَّ شَيْءٍ فِيْهِ مَسَاس بِمَنْزِلَةِ الشَّيخ أو سركاله، إلَا أنَّ مَا تَوالَى مِنْ مُحَاوَلَاتِهِ قصد اِسْتِعْطاف السركال لّمْ تُجْدِ نَفْعًا أمامَ هّذَا الإنْسَان، الذِي يُخَفِّي وَرَاءَ الْغُرُورَ وَالتَّكَبُّرَ عُيُوبًا فِي دَاخِلِه لَا يُرِيْدُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا النَّاس، وَالذِي عُرفَ بِقَسْوَةِ الْقَلْبِ التِي مَيَّزْتهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ رِجَالِ القَرْيَةِ، حَيْثُ أعْمت نَشْوَة السُّلْطَة والشَهْوة فِي إِذْلاَلِ وَمَهانَةِ الرِجَال بَصِيرَته، لَمْ يَتَوَانَ عَنْ مُمَارَسَةِ مَا عُرفَ بِهِ مِنْ عُنجُهيّةٍ، فشرعَ بِإهَانَته وَشَتْمه عَلَى مَرْأىً وَمَسْمَعٍ مِنْ جِيرَانهِ الذين أَثَارهُم الْفُضُول وَدَفَعهُم لِلتَّوَافُدِ، إلَى جَانِبِ زَوَّجْته التِي لّمْ تَنْبَسْ بِبِنْتِ شَفَة، ثُمَّ أمرهُ بصَّوتٍ عَالٍ قَائِلًا:   

– تَحَرَّكْ أمَامِي.. تَحَرَّكْ أمَامِي..

– يَا كَلْب، أنتَ وَأَمْثَالك نَاكِرُو الْجَمِيلِ لَا تُسْتَحَقُّون الْعَيْشَ!.  

 تَلَعْثَمَ فِي عِباراتِه والعَبْرَة تَخنُقهُ، أقتربَ مِنْهُ السركال أكْثر وَهُوَ يتَرَاجَع قليلًا، لَكَزَه فِي صَدْرهِ غَيرُ مُبَالٍ بِتَوَسُّلَاتهِ، تَقَهْقَرَ يَتَرَنَّحُ، اِخْتَلَّ تَوَازُنهُ، سَقَطَ علَى ظَهْرِه، رَكَلهُ السركال بِقِدَمهِ، ثُمَّ أقْدَمَ عَلَى التَّلْويحِ بِالعَصَا أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ.

وَبَعْدَ أَنْ أوْقَعَ بِهِ الضَّرْبَ بِالعَصَا، نَهَضَ مُوليًّا إِيَّاهُ ظَهْرَهُ مِنْ شِدَّةِ أَلَمه واِرْتِبَاكه، مَسَكَهُ مِنْ كَتِفِه، وَدَفَعهُ بِقُوَّةٍ مُعَنِّفًا، وَطَالِبًا مِنهُ السَيْر أَمَامَهُ، اِسْتجَابَ لأمْرِهِ تَارَكًا خَلْفَهُ زَّوْجَةً حَائِرةً تجول بِنَاظِرَيْهَا فِي  أرْجَاءِ المَكَانِ.

كُلَّما لَاحَظَ السركال تَثَاقُلًا فِي مِشْيَتِهِ عَالَجَهُ بِضَربٍ مُبَرِّح مُسْتَخْدَمًا العَصَا؛ مِنْ أجْلِ أنْ يُسْرِعَ فِي خُطاهُ للوصُولِ مُبَكِّرا إلى مَضِيفِ الشَّيخ، غَيرُ آبهٍ بِمَا قَدْ يَعْتَرِضَ الرَّجُل مِن حُفَرٍ، أو طَيَّاتٍ أرْضِيَّةٍ، قَدْ تُسَبِّب لَهُ الأذَى وَهُوَ يَتَخَبَّط فِي سَّيْرِهِ عَبْرَ طَرِيقٍ يَغِطُّ فِي ظَلاَمٍ دَامِس.   

 كَانَ مُتَيَقْنًا مِنْ عَدمِ تَورُّطه بِأَيِّ فعلٍ يُمْكِنُ أَنْ يُشَكِّلَ مَصْدَرَ إسَاءَةٍ لِلشَّيخ، أو رُبَّما يَكُونُ مُثِيرًا جَالِبًا لِانْتِبَاهِ وَاِهْتِمَامِ حَاشِيتهِ، إلَا أنَّ شُعُورًا بِالإِحْبَاطِ، الذِي اِمْتَزَجَ فِيْهِ القَلَق بِالحَيرَةِ سُرْعَانَ مَا تملكهُ، وَأُثَارَ الشَّكِّ في نَفْسِهِ.

صَارَ يُعَانِي مِنْ جَفَافٍ فِي الفَمِ، بدَا أشبه بِإنْسَانٍ مُخْتَلٍ، وَهُوَ يَسِيرُ فِي خُطَاه مُتَعَثْرًا أمَامَ السركال، الذِي لَمْ يَكْتَفِ بِضربِه، بَلْ أَطْلَقَ لِغَضَبِهِ الْعِنَانَ  مُكْثِرًا مِنَ التَوْبِيخ دُوْنَ التَّفْكِير فِيمَا تَترُك كُلِّ عِبَارةٍ أو كَلِمَةٍ جَارِحَةٍ ينطقها مِنْ آثَارٍ نَفْسِيَّةٍ عَمِيْقَةٍ، قَدْ يَمْتَدُ وَجَعَهَا لِسَنَوَاتٍ.

وَصَلَا دَّارَةُ الشَّيخ، أَمَرَ السركال الفلاح المَغْلُوبٌ عَلَى أَمْرِهِ دُّخُول المَضِيف، وَقَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الرَّجُل المُبْتَلَى، وَقفَ عَلَى عَتَبَةِ المَضِيف خَائِرَ البَدْن، وَهُوَ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ بِحَاجَةٍ إِلَى رَشْفَةِ مَاء يُعَالِجُ بِهَا جَفَافٍ الشَّفَّتَيْن وَصَّدَأ الحَلَق(3).

 نَظَرَ على عُجَالَةٍ الَى الشَّيخِ، وإلَى مَنْ يَجْلِس حَوْلَهُ، صَعُبَ عَلَيْهِ اِحْتِمَال المَشْهَد، تَغَيَّرَ حَالُهُ، شَحَبَ وجههُ، أصابهُ الهَلَع، اِعْتَرَاهُ الخَوْف، كادَ يُغْمى علَيه مِن شِّدَّةِ الرَهْبَة، فكَانَ أنْ أَحْدَثَ أمَامَ الحَاضِرِين!.

تَعَالَت أصْوَات الضَحِك فِي أرْجَاءِ المَضِيف، اِخْتَلَطْت الهَمسَات بِكَلِمَاتِ السُّخْريَّة، التِي أصَابَت مِنْهُ مُوجعًا، قطع الشَّيخ ضَّجِيج أصْوَات الحَاضِرِين بِعِبَارةِ إهَانَةٍ وَتَّحْقِيرٍ؛ تَأْنِيبًا لَهُ علَى فعلتِهِ المُخْجِلة.

وُهُوَ يَقِفُ عَلَى بَابِ مَضِيفِ الشيخ، وَجَدَ نَفْسَهُ فِي مُوَاجَهَةِ صِّرَاعٍ حَاد مَعَ  النَّفْسِ، بَعْدَ أنْ تَيَقَّنَ مِنْ أنَّهُ وَقَعَ فِي وَرْطَةٍ كَبِيرَةٍ، فقدْ أَدْرَكَ جيدًا مِنْ أنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْقُدْرَة عَلَى أَنْ يَسْتَصْلِحَ ما أَفْسَدَهُ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ القِيَام بشَيْءٍ مَا.

تَمَلَّكَهُ شُّعُور بالخَجَل، أَحَسّ بِتَسَارُعِ ضَرْبَات القَلْب، وَفِي اِرْتِفاعِ حَرَارَة جِسْمِهِ، زَادَ ارْتِبَاكهُ، لاَذَ بِالصَّمْتِ مُطأطَأ الرأس لَا يَتَكَلَّم؛ تَعْبِيرًا عَن الاِضْطِرَابُ وَالخَوْفُ وَالهَلَعُ، الذِي اِسْتَوْلَى علَى ذِّهْنِهِ وَوِجْدَانِهِ، وَهُوَ يَتَجَرَّعُ ألَمَ الْفَضِيحَة، الذِي بَدَأَ يَنْتَشِر وَيَعُمّ الْجَوَارِح كُلُّهَا، وَالذي مِنْ شَأْنِهِ أنْ يتركَ نَدُوبًا عَمِيْقَةً في الروحِ لَا تَنْمَحِي مَهمَا تَقَادَمْت الأيَام.

نهره الشَّيخ وَصَاحَ بِأعلَى صوته قَائِلًا:

– ألا تَسْتَحي..  ألا تَسْتَحي..

زادت شِّدَّة الصَّمْت الذِي يملأ المَكَان، عادَ الشَّيخ ثانية لِمخاطبتِهِ بِعَصَبِيَّةٍ وَهُوَ يقول:

– فعلتك لَمْ يفعلها إلا الطَفُل!.

 اِسْتَبَدَّ بِهِ الْهَمُّ؛ جراء وجع الْفَضِيحَة، الذِي عَدَهُ أشد ألمًا مِمَا هُوَ يَعِيشُ فِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، اَحَسَّ بالخِزْيِّ وَالإهَانَةِ، حَاوَلَ أنْ يَتَمالَكَ نَفْسَهُ، أجَابَهُ بِغُصَّةٍ وَالعَرَقُ يَتَصَبَّبُ مِنْ جَبِينِهِ قَائِلًا:    

– محفوظ وصلتُ إلَى بَابِ مَضِيفكَ مُحْتَفِظًا بِرُبَّاطِ جَأشِي، فَمَا بَالُكَ بِالَّذِين يُحدِثون فِي مَنَازِلهُم لِمُجرَّدِ سماعهم بِطَلَبك إِيَّاهُمْ؟!.

 

عاجل !!