بقدر ما نسعى إلى تقديم المكان السيري المظلم / المعادي في رواية السيرة الذاتية (خلود الأوراق المتناثرة) على أنه عنصر سردي يتمتع بخصوصية, وأهمية، نؤكد أن هذا العنصر لا يمكن النظر إليه من منطلق عزله عن بقية العناصر السردية الأخرى الزمن، الشخصية، ولاسيما عنصر الزمن، إذ يستحيل وجود مكان أرضي، أو غير أرضي لا يتضمن كمية من الزمن وجدت بوجوده, واستمرت باستمراره، كما أن المكان لا تتجلى أبرز صفاته الجمالية إلا من خلال الزمان ,والإنسان, وباعتبار أن الشخصية تعد عنصراً رئيساً من عناصر السرد, وترتبط أهميتــــها بوجود العمل السردي نفسه، ولاسيما في السيرة الـــذاتية المبنية ولو تأملنا طبيعة المكان في السيرة الذاتية بمعزل عن أساليب تقديمه، لوصلنا إلى نتيجة تؤكد أنه ليس مجرد ديكور للحدث وحسب، أو حتى بعداً كنائيّاً للحدث, أو الشخصية, أوالبيئة، على نحو ما كان سائداً في الروايات التقليدية، بل بوسعنا التأكيد أن المكان أصبح يشكل رموزه التي تعيد تشكيل أدبية النص ,والرؤية فيه، وهذه الرموز ستؤسس ولاشك بنىية جمالية خاصة بجنس السيرة الذاتية، مما يجعل المكان في هذا الجنس الأدبي رمزاً لحياة البشر، يجسد الغربة ,والملل, والضيق ,والمفارقة, والعبور المؤقت، ويؤثر على مفهوم الزمن، فيعكس اضطرابه بين الديمومة ,واليومي، بين السطحي والعميق، وبين الوهم والحقيقة , ففــــي رواية السيرة الذاتية ( خلود الأوراق المتناثرة ) نتلمس معالم أمكــــــــــنة عديدة متنوعة التفاصيل والأحوال ، مما يضعنا أمام نص يمثل رحلة في ثنايا المكان، كما يؤكد الروائي نفسه أهمية المكان بالنسبة له، عنده ارتباط كبير جدّا بالمكان،فهو اقدّر ما يسمّى بجمالية المكان في الرواية على الرغم من أنّه مذهب كلاسيكي واقعيّ ,ولكنّه مرتبط جدّاً بالأماكن، وأحياناً لا يعرف كيف يكتب حتى يكون جالسا في مكان بعينه في داخل المعتقل , فنراه يقول :-
تمددت على فراشي , وامتد خيالي إلى حيث يعذب الشاب الذي رايته, ومن ثم إلى حيث يعذب الآخرون , وصرت أرى بعين الخيال كل المناظر الوحشية التي كنت اسمعها من رواتها ويعتصرني الألم ألممض لهم , وللتهديد والضغط النفسي الذي يمارسه هولاء علي,في النص السردي وضح الروائي (محمد حسن عليوي) الهدف الأساس من كتابة سيرته الذاتية المليئة بالظلم والاضطهاد ,وهي رسالة موجهة إلى العالم لكشف المستور في المجتمع العراقي, من قيم ,ومبادئ مزيفة , مخفية ,وهو يحاول فضحها , وان اغلب المعاناة التي سجلها هي / معاناة الرجل العراقي / رجل الدين المسالم والتي كتبت عنه مئات التقارير السياسية ,والسياسية الظالمة التي حكمت عليه بالإعدام , واتهمته بمحاولة الهروب إلى خارج العراق ,واعتمد على تقنية الفلاش باك بذكر الأحداث الماضية عن طريق الذاكرة القوية التي يمتلكها , وأحداث الرواية تنطبق في كل زمان ومكان للظلم الاضطهاد , أما على الصعيد الفكري فإن (محمد حسن عليوي) في سيرته الذاتية تناور في أفق البلاغة, والفلسفة, والسياسة, والتاريخ في آن معاً، فهو لا يغادر المكان على مستوى الواقعة، جغرافياً، إلا من أجل أن يعود إليه رمزياً ليحتويه ,ويعلن انتماءه إليه، وعدم تخليه عنه، والإمساك به حتى الرمق الأخير وهذا الانتماء الاختياري لهذه الأمكنة ,أمكنة الطفولة ,والشباب يقـــــف في موقع النقيض من وجوده الفعلي في مديرية امن ذي قار , فنراه يقول : اليوم هو الثلاثاء العاشر من تموز 2001 , وفي غير لوقت المحدد , جاءني مرافقي إلى التحقيق , وقال : السيد المدير يحب مقابلتك!وهيأت نفسي لذلك دخلت عليه , استقبلني بابتسامة باردة لا توحي بشيء وكانت بيده ورقة قد سمر عينيه فيها , وعندما رفع عينيه إلي , صافحني , وأشار إلي أن اجلس ثم طرح السؤال التالي : في يوم الأربعاء 30 مايس 2001 أين كنت؟ وما هي الأعمال التي قمت بها في ذلك اليوم , من الصباح إلى ما بعد صلاة العشاء؟!أجبته : كنت في غرفة العمليات في مستشفى المستنصرية لاستئصال غدد سرطانية من صدري ومن أنحاء أخرى من جسمي,على النمط التقليدي، وإذا كان المكان يتخذ دلالته التاريخية, والسياسية ,والاجتماعية من خلال الأفعال ,وتشابك العلاقات، فإنه يتخذ قيمته الحقيقية من خلال علاقته بالشخصية عامة , ومن المهم أن نشير إلى أنه من الممكن أن يتم السرد بدون الإشارة إلى مكان الأحداث المروية، ومكان اللحظة السردي ,أو العلاقة بينهم، إلا أن المكان في حال التأكيد عليه يمكن أن يلعب دوراً مهماً في السرد، وأن السمات ,أو الوصلات بين الأماكن يمكن أن تكون هامة ,وتؤدي وظيفة موضوعية ,وبنيوية كوسيلة للتشخيص، ولاسيما في نصوص السيرة الذاتية، إذ يلعب المكان دوراً هاماً ,ومحورياً في تكوين مرجعيات الذات التي تحكي تجربتها،فضلا عن دوره في جعل أحداث النص, ومواقفه ووقائعه ممكنة الحدوث، وتشي بواقعيته, و قربه من المعقول, وقد تجسد المكان المعادي بشكل واضح عند الروائي وهو يروي لنا سيرته داخل السجن , فنراه يقول :وجدت في هذه الغرفة مكانا الملم به جسدي المضطرب وما أن لبثت ساعة أو مثلها حتى عاد احدهم من التعذيب مسود الجلد مشوه الوجه من الضرب حتى صاح بي: قم عن مكاني, هذا مكاني , من أنت؟ وما الذي جاء بك؟وتناهى والى سمعي صوت من الطرف الآخر من الغرفة يدعوني سيدنا تعال هنا , ولما دنوت منه وجدته قد وسع لي ما يسمى مكانا!!, إن أهمية دراسة المكان في السيرة الذاتية تنبع من ضرورة الوصول إلى تحديد طبيعة الفضاء السردي فيها، لأن الفضاء أكثر شمولاً, واتساعاً من المكان، فهو أمكنة الرواية كلها، فضلا عن علاقاتها بالزمن ,والحوادث ومنظور الشخصيات0
إن المكان في نص (محمد حسن عليوي) يفرض نفسه في سرد يعادل في قيمته قيمة الوثيقة التاريخية التي تدون تاريخ مجتمع ,ومكان، وما ذكر أسماء الأماكن الحقيقية إلا تقنية استخدمها لتوفير أكبر قدر ممكن من الإيهام الذي يجعل المتلقي يؤمن بحقيقية النص, وأحداثه,وشخوصه، وبالتالي مضاعفة طاقة التأثير به ,ولعل ولعه بالأمكنة هو السبب، وأول ما نلحظه ذلك الحرص الشديد منه على تسمية الأمكنة، مما يشير بالتالي إلى حرصه على إضفاء بعد واقعي للمكان الذي تدور فيه الأحداث على أقل تقدير، وأول الأماكن التي تصادفنا في النص التالي هو حديثه بوصف رائع تحس وكان لديه كاميرا للحديث عن الحوار بين السجين محمد حسن, وسجينه المحقق لكي يعطينا معلومات إضافية عنه، وكأنه يفعل ذلك بقصد الدلالة على أنه مكان إجباري يكتفي منه بالهرب من الخارج، ولذلك فهو لا يشعر فيه إلا بالعزلة التامة عن الناس،ويسرد الأحداث , وتتحول هذه العزلة عنده إلى سجن يؤرقه كل تفصيل فيه, فنراه يقول : وخرجت من غرفة مدير امن ذي قار وأنا لا اعلم ما هو مصيري؟!ولماذا أنا هنا؟! وما هي التهمة الموجهة لي بالضبط؟! وتركني مدير امن البلدة في غرفة الأوراق والأضابير لأستريح بها , وذهب لا اعلم إلى أين ؟ ووجدت في هذه الغرفة الرائد المسؤول عن تبليغي ببلاغات الأمن , فقام مرحبا وابتسامة عريضة على وجهه وهو يقول , وأخيرا صرت ضيفننا , ثم قال لي : انظر إلى ذلك الرف , ورفعت عيني إلى حيث أشار , قال: هذه الأضابير العشرون كلها تخصك وتنطوي على التقارير المرفوعة ضدك , ويأخذ المكان بُعده الوظيفي ,والدلالي في السيرة الذاتية عند(محمد حسن عليوي) إذ يشكل المكان في النص صورة تعكس وعي المؤلف للعالم، ولذلك نلحظ في سيرته حضوراً خاصاً للمكان ,ولاسيما في مرحلة التحقيق والاعتقال , والذي يؤديه المكان في السيرة الذاتية ، يظهر بجلاء, ووضوح في مشاهد وصف المكان التي تشكل وثائق تعكس واقع طبقة اجتماعية مظلومة ينتمي السارد إليها، ووصف السجن يدل بوضوح على هذه الطبقة الاجتماعية الفقيرة , وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن وصف المكان لا ينطوي على دور جمالي تزييني أخاذ، وبذلك تمتزج وظائف المكان لتؤدي أكثر من دور بآن, وفي مكان آخر، أقرب ما يكون إلى المنفى، أحد أكثر الأقدار مدعاة للكآبة, ولهذا فإن كتابته عن موطنه الأول الخضر , وبقية الأماكن التي عاصر مراحل تكوين شخصيته تمثل فيما نرى استبطاناً لوجدان ,وذاكرة, الروائي، وهي كما أسلفنا كتابة تخلق من تظهير المكان حالة ترميم لذات متشظية, وتؤدي وظيفة رمزية نفسية ,وفكرية من ناحية، كما تساهم من ناحية ثانية في تشكيل معززات واقعية حسية للبنية المفاهيمية الرمزية التي يتأسس عليها فكر, وعقل الروائي , والمكان في السيرة الذاتية، يتكئ الانشغال بالمكان على كون السيرة الذاتية فناً زمكانياً يقف خارج القسمة التقليدية للفنون إلى فنون زمنية وأخرى مكانية، وهو بذلك يعكس تفرداً للنوع بقدر ما يعلن تقويضاً للتقسيم ذاته.