التهمة التي يلصقها البعض بالشيعة كونهم غدروا بأمير المؤمنين وأولاده إنما هي تهمة فارغة لأن أهل الكوفة في وقتها كما قلنا ليسوا بشيعة وإنما حالهم حال بقية أهل المدن
حظيت الكوفة باهتمام الخليفة الثاني وقد رُوي عنه قوله عنها: هم رمح الله وكنز الإيمان وجمجمة العرب يحرسون ثغورهم ويمدون أهل الأمصار
مسجد الكوفة في زاويته فار التنور وعند الأسطوانة الخامسة صلى إبراهيم وفيه عصا موسى وشجرة اليقطين ومصلى نوح ووسطه على روضة من رياض الجنة وفيه ثلاث أعين من الجنة لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حبوًا
الذين تولوا الحكم في الكوفة كانوا في أغلبهم لا يميلون إلى أهل البيت وكان الخلفاء يعمدون إلى تعيين ولاة ليسوا من ذوي الولاء للبيت الهاشمي إلا في حالة عمار بن ياسر وهي حالة فريدة لم تتكرر مرة أخرى
الكوفة هي دلالة على إقليم كبير يشمل بغداد قبل أن تكون عاصمة الخلافة والأنبار والحلة والفرات الأوسط وكربلاء وعاصمة هذا الإقليم هي الكوفة
الأغلبية في الكوفة في زمن الإمام علي حتى تاريخ مقتل الحسين لم تكن للشيعة بل كانت الاتجاهات السياسية لبعض أهل الكوفة تميل إلى الزبيريين
رياض العلي
يتصور البعض، مع الأسف وجهلاً منهم، أن أهل الكوفة كانوا كلهم شيعة في عصر أمير المؤمنين وولديه الحسن والحسين. بينما الحقيقة التي يجهلها الكثير من الباحثين والكتاب، ممن يعميهم التعصب عن البحث عن الحقيقة، هي أن الكوفة كانت كغيرها من المدن الإسلامية الحديثة في مرحلة التكوين. كانت عبارة عن مزيج من السكان الأصليين والقادمين من الجزيرة، وكانت في الأصل معسكرات للجيوش ومحطة لتجميع المقاتلين، ثم تحولت فيما بعد إلى مدن مستقرة.
لا ننكر أن في الكوفة من كان يوالي أئمة أهل البيت (عليهم السلام). ونعتقد أن بذور التشيع زُرعت في الكوفة على يد عمار بن ياسر حين ولاه عمر بن الخطاب عليها. وقد حظيت الكوفة باهتمام الخليفة الثاني، وقد رُوي عنه قوله عنها: “هم رمح الله وكنز الإيمان وجمجمة العرب، يحرسون ثغورهم ويمدون أهل الأمصار” (فتوح البلدان، ج 2، ص 354). وهذا يؤكد أن الكوفة كانت في ذلك الوقت معسكراً للجيوش، وكان الخليفة الثاني حين يخاطب أهل الكوفة يخاطبهم بـ”رأس الإسلام” (نفس المصدر)، وكان يقول إن في الكوفة “وجوه الناس”.
ورُوي في فضل مساجدها الكثير؛ حيث يذكر القزويني: “ولمسجدها فضائل كثيرة، منها ما روى حبة العرني قال: كنت جالساً عند علي فجاءه رجل وقال: هذا زادي وهذه راحلتي أريد زيارة بيت المقدس! فقال له: كل زادك وبع راحلتك وعليك بهذا المسجد، يريد مسجد الكوفة، ففي زاويته فار التنور، وعند الأسطوانة الخامسة صلى إبراهيم، وفيه عصا موسى وشجرة اليقطين ومصلى نوح، عليه السلام. ووسطه على روضة من رياض الجنة، وفيه ثلاث أعين من الجنة، لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حبوًا. وبها مسجد السهلة؛ قال أبو حمزة الثمالي: قال لي جعفر بن محمد الصادق: يا أبا حمزة، أتعرف مسجد السهلة؟ قلت: عندنا مسجد يسمى مسجد السهلة. قال: لم أرد سواه! لو أن زيداً أتاه وصلى فيه واستجار فيه بربه من القتل لأجاره! إن فيه موضع البيت الذي كان يخيط فيه إدريس، عليه السلام، ومنه رُفع إلى السماء، ومنه خرج إبراهيم إلى العمالقة، وهو موضع مناخ الخضر، وما أتاه مغموم إلا فرج الله عنه” (آثار البلاد وأخبار العباد / زكريا بن محمد بن محمود القزويني / مادة الكوفة).
- حقيقة ولاء أهل الكوفة
أما ما رُوي من ذم في أهل الكوفة فهو من أكبر الدلائل على أن أغلب أهل الكوفة في ذلك الوقت لم يكونوا يدينون بالولاء الكامل لأهل البيت. وأكاد أجزم أن أهل الكوفة لم يكونوا يعرفون عن علي بن أبي طالب إلا القليل حين قدم إليهم، حيث إن الإمام علي استأذن أهل الكوفة ليحط بين ظهرانيهم، وأنهم رفضوا في بداية الأمر. وبعث ابنه الإمام الحسن وعمار بن ياسر ليختبر ولائهم وليعرف لمن يدينون. وقد ذكر الطبري في تاريخه، في الجزء الذي يتحدث فيه عن معركة الجمل، وفي الفصل المعنون “ذكر الخبر عن مسير علي بن أبي طالب نحو البصرة” ما نصه:
“حدثني عمر قال حدثنا أبو الحسن عن بشير بن عاصم عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال كتب علي إلى أهل الكوفة: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اخترتكم والنزول بين أظهركم لما أعرف من مودتكم وحبكم لله عز و جل ولرسوله صلى الله عليه و سلم فمن جاءني ونصرني فقد أجاب الحق وقضى الذي عليه. حدثني عمر قال حدثنا أبو الحسن قال حدثنا حبان بن موسى عن طلحة بن الأعلم وبشر بن عاصم عن ابن أبي ليلى عن أبيه قال بعث محمد بن أبي بكر إلى الكوفة ومحمد بن عون فجاء الناس إلى أبي موسى يستشيرونه في الخروج فقال أبو موسى: أما سبيل الآخرة فأن تقيموا وأما سبيل الدنيا فأن تخرجوا وأنتم أعلم. وبلغ المحمدين قول أبي موسى فبايناه وأغلظا له فقال: أما والله إن بيعة عثمان في عنقي وعنق صاحبكما الذي أرسلكما إن أردنا أن نقاتل لا نقاتل حتى لا يبقى أحد من قتلة عثمان إلا قتل حيث كان”.
فالذين تولوا الحكم في الكوفة كانوا في أغلبهم لا يميلون إلى أهل البيت، وكان الخلفاء يعمدون إلى تعيين ولاة ليسوا من ذوي الولاء للبيت الهاشمي إلا في حالة عمار بن ياسر، وهي حالة فريدة لم تتكرر مرة أخرى. بل إن أهل الكوفة شكوا عماراً إلى عمر بن الخطاب فعفاه من ولاية الكوفة (انظر تاريخ الطبري، ج 3، ص 227 – طبعة الأعلمي)، حيث إن أصحاب أمير المؤمنين قد أُبعدوا عن الحكم بشكل عام.
- الكوفة كإقليم جغرافي
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن أكثر الباحثين يعتقدون خطأً أن الكوفة هي تلك المدينة الصغيرة التي خُططت فيها القبائل المقاتلة، في حين أن الكوفة هي دلالة على إقليم كبير يشمل بغداد قبل أن تكون عاصمة الخلافة والأنبار والحلة والفرات الأوسط وكربلاء. وعاصمة هذا الإقليم هي الكوفة، فكان يطلق على الإقليم اسم عاصمته كما هو الحال مع دول وأقاليم كثيرة (الكويت – قطر – تونس – الجزائر)، ومن محافظات العراق مثلاً (البصرة – النجف – بغداد). بل إن المصريين إلى اليوم يسمون القاهرة باسم (مصر).
وعند مراجعة كتب البلدان والفتوحات نجد أن العرب الذين قدموا من الصحراء استوطنوا تلك المدن والقرى بشكل واسع، حيث جاء في كتاب البلدان لليعقوبي في معرض كلامه عن خطط الكوفة:
“كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص لما افتتح العراق يأمره أن ينزل بالكوفة، ويأمر الناس أن يختطوها، فاختطت كل قبيلة مع رئيسها، فأقطع عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله سلم. فكانت عبس إلى جانب المسجد، ثم تحول قوم منهم إلى أقصى الكوفة؛ واختط سلمان بن ربيعة الباهلي والمسيب بن نجبة الفزاري وناس من قيس حيال دار ابن مسعود؛ واختط عبد الله بن مسعود وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن حريث الدور حول المسجد؛ وأقطع عمر جبير بن مطعم فبنى داراً، ثم باعها من موسى بن طلحة؛ وأقطع سعد بن قيس عند دار سلمان بن ربيعة بينهما الطريق؛ واستقطع سعد بن أبي وقاص لنفسه الدار التي تعرف بدار عمر بن سعد؛ وأقطع خالد ابن عرفطة وخباب بن الأرت وعمرو بن الحارث بن أبي ضرار وعمارة ابن روبية التميمي؛ وأقطع أبا مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري؛ وأقطع بني شمخ ابن فزارة مما يلي جهينة؛ وأقطع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص شهار سوج خنيس؛ وأقطع شريح بن الحارث الطائي؛ وأقطع عمر أسامة بن زيد داراً ما بين المسجد إلى دار عمرو بن الحارث بن أبي ضرار؛ وأقطع أبا موسى الأشعري نصف الآري وكان فضاء عند المسجد؛ وأقطع حذيفة بن اليمان مع جماعة من عبس نصف الآري وهو فضاء كانت فيه خيل المسلمين؛ وأقطع عمرو بن ميمون الأودي الرحبة التي تعرف بعلي بن أبي طالب عم وأقطع أبا جبيرة الأنصاري وكان على ديوان الجند؛ وأقطع عدي بن حاتم وسائر طيء ناحية جبانة بشر؛ وأقطع الزبير بن العوام؛ وأقطع جرير بن عبد الله البجلي وسائر بجيلة قطيعة واسعة كبيرة؛ وأقطع الأشعث بن قيس الكندي وكندة من ناحية جهينة إلى بني أود، وجاء قوم من الأزد فوجدوا فرجة فيما بين بجيلة وكندة فنزلوا وتفرقت همدان بالكوفة، وجاءت تميم وبكر وأسد فنزلوا الأطراف. وأقطع أبا عبد الله الجدلي في بجيلة، فقال جرير بن عبد الله: لم نزل هذا فينا وليس منا. فقال له عمر: انتقل إلى ما هو خير لك. فانتقل إلى البصرة وانتقلت عامة أحمس عن جرير بن عبد الله إلى الجبانة. وقد تغيرت الخطط وصارت تعرف بقوم اشتروا بعد ذلك وبنوا، وكان لكل قبيلة جبانة تعرف بهم وبرؤسائهم منها: جبانة عرزم، وجبانة بشر، وجبانة أزد، وجبانة سالم، وجبانة مراد، وجبانة كندة، وجبانة الصائديين، وصحراء أثير، وصحراء بني يشكر، وصحراء بني عامر. وكتب عمر ابن الخطاب إلى سعد أن يجعل سكك الكوفة خمسين ذراعاً بالسوداء، وجعلت السوق من القصر والمسجد إلى دار الوليد إلى القلائين إلى دور ثقيف وأشجع، وعليها ظلال بواري إلى أيام خالد بن عبد الله القسري، فإنه بنى الأسواق، وجعل لأهل كل بياعة داراً وطاقاً، وجعل غلالها للجند، وكان ينزلها عشرة آلاف مقاتل”.
- التنوع السياسي والديني في الكوفة
أعتقد أن الأغلبية في الكوفة في زمن الإمام علي حتى تاريخ مقتل الحسين لم تكن للشيعة، بل كانت الاتجاهات السياسية لبعض أهل الكوفة تميل إلى الزبيريين، وبعضهم كان من أتباع الخوارج وفكرهم الذي لا يعترف بتولي علي أو أحد من أولاده الخلافة. وبعضهم كان يميل إلى البيت الهاشمي دون تحديد اسم بعينه، وبعضهم يميل إلى معاوية بن أبي سفيان وإن كانوا قلة قليلة جداً (انظر تاريخ الطبري، ج 2، ص 584 / طبعة الأعلمي – بيروت). بينما أغلبية أهل الكوفة الغالبة لم يكونوا ذوي اعتقاد ثابت، وكانوا يميلون إلى اتجاهات مختلفة حسب الدوافع القبلية والأهواء الشخصية.
وحينما نقرأ في كتب التاريخ ذم الإمام علي أو الحسن أو الحسين أهل الكوفة، فهم لا يقصدون شيعتهم والموالين إليهم بالطبع، بل يقصدون تلك الأغلبية التي تتخبط بآرائها ولا تستقر على رأي ثابت. ولم يكن الشيعة يجدون في الكوفة مستقراً لهم كما يتصور البعض، حتى أنهم لم ينشئوا فيها مدرسة دينية ذات شأن إلا في وقت متأخر، ولم تكن تلك المدرسة في الكوفة المدينة المعروفة، بل كانت في محيط قبر أمير المؤمنين في النجف حينما نزح إليها الطوسي هرباً من طغرل بك الذي غزا بغداد.
أما الأئمة فلم يسكن منهم الكوفة باستثناء أمير المؤمنين لأغراض عسكرية، وابنه الإمام الحسن لأسباب سياسية ولم يلبث أن رجع إلى المدينة بعد صلحه مع معاوية. وكان الإمام علي يعتقد أن أهل الكوفة يحبونه لقرابته من الرسول، ولكون عماراً وهو من أشد أنصاره قد كان يوماً ما والياً عليهم، وشيء طبيعي أنه حدثهم عنه حيث قال كما جاء في تاريخ الطبري: “إن أهل الكوفة أشد إلي حباً وفيهم رؤوس العرب وأعلامهم”. وأهل الكوفة هنا ليس هذا المعسكر المحدود بل عموم القرى المجاورة والتي تسمى السواد بالعرف العربي، والتي عوقبت على هذا الحب من قبل ولاة العراق فيما بعد.
وثمة نقطة مهمة وهي أن الإمام علي لم يختره أهل الكوفة للخلافة وإنما اختاره أهل المدينة، بل إن فقه الشيعة أخذ ينمو في المدينة أكثر منه في الكوفة التي أخذت تتجه في الفقه إلى الرأي والقياس، ومنها ظهر أبو حنيفة وسفيان الثوري. وحتى أن موضوع الرسائل التي كتبها أهل الكوفة إلى الإمام الحسين إنما كتبوها لأنهم رغبوا بالتغيير، وليسوا لأنهم كانوا شيعة الإمام علي وأولاده، فالحسين كان في وقتها داعية تغيير ومطالباً بإعادة الإسلام إلى حقيقته التي بدلّها بنو أمية، وليس زعيماً شيعياً يطلب من أتباعه أن يناصروه كما هو الحال مع الزعماء المعاصرين.
والتهمة التي يلصقها البعض بالشيعة كونهم غدروا بأمير المؤمنين وأولاده إنما هي تهمة فارغة؛ لأن أهل الكوفة في وقتها كما قلنا ليسوا بشيعة، وإنما حالهم حال بقية أهل المدن، في حين أن الشيعة مبثوثون في المدن والقبائل القريبة من المدينة الذين هم على تماس وتقارب بأهل المدينة وسيرة الإمام علي. وسبب تعدد مذاهب أهل العراق (البصرة – الكوفة) هو تفوقهم الحضاري وعلو مكانتهم الثقافية، وأن التشتت الذهني والتشرذم جاءهم من القبائل التي غزتهم من الجزيرة العربية التي ما كانت تستقر على رأي واحد. ونلاحظ أن أغلب الذين قادوا الحراك الثقافي والحضاري وأناروا الطريق هم من سكان العراق الأصليين، أحفاد السومريين والبابليين والآشوريين والأكديون والآراميون والسريان والكلدان، في حين انشغل العرب الغزاة بالحروب والفتن.