صدر عن المركز القومي للترجمة عام ٢٠٢٣ كتاب «حول العدالة على كوكبنا» ل.. كوك تشور تان، أستاذ الفلسفة بجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، اختصاصي الفلسفة السياسية والفلسفة الأخلاقية، بترجمة الأكاديمي د. كرم عباس مدرس الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة. يندرج الكتاب ضمن النقاشات الفلسفية الكبرى حول العدالة في بعدها العالمي؛ ليطرح أسئلة جوهرية عن الحقوق، والواجبات، والمسؤولية الأخلاقية في عالم متشابك المصائر.في مقدمة المترجم، يلفت د. كرم عباس الانتباه إلى الفجوة بين المصطلحات والواقع، فليس نقل المفردات الفلسفية عملًا تقنيًا فحسب؛ بل هو فعل يتطلب وعيًا نقديًا لتاريخ المفهوم، ومآلاته، وحدود صلاحيته في السياقات العربية، مضيفًا أن عملية الترجمة لا تُختزل في إطار ضيق من الكلمات، وإنما في إطار إعادة بناء الدلالة بما يجعل النص قادرًا على التعاطي مع محيط ثقافي مختلف بقدر من المرونة الاصطلاحية.وإن كان المترجم قد أوضح في مقدمة كتابه الأحدث «ديدرو والحركة الموسوعية»، لجون مورلي، الصادرة ترجمته عن الجهة ذاتها قبل نحو شهر، مشقة نقل مفرداتٍ ينتمي معجمها اللغوي في كثير من الأحيان إلى قرنٍ ونصف مضى؛ نظرًا لوجود مفردات مهجورة؛ فإن هذا العمل الذي بين أيدينا لا يقل صعوبة بحال؛ فهو يتطلب استيعاب نشأة المصطلح الفكرية، وحمولاته التأويلية، وتطوره الدلالي، كي يظل النص أمينًا لروحه، وفي الوقت ذاته متاحًا لقارئ العربية المعاصر.وليس من المبالغة القول إن كرم عباس، عبر ترجماته ومؤلفاته، يجمع بين الصرامة الأكاديمية والوعي النقدي، ما يمنحه قدرة خاصة على نقل هذه الأعمال الفلسفية المعقدة على مدى مسيرته الأكاديمية؛ فقد حصل على درجة الماجستير بامتياز في موضوع الفلسفة السياسية عند القديس توما الأكويني، ثم نال الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى عن أطروحته في العلاقة بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية في العصر الوسيط المتأخر، كما درَّس الفلسفة في عدد من الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، وهو اليوم مدرس الفلسفة بكلية الآداب – جامعة القاهرة.إلى جانب ذلك، ألّف كتبًا عدة، من أبرزها: إشكاليات اللاهوت المسيحي، الفلسفة المسيحية، محاضرات في التراث اليهودي، الفكر العربي الحديث وقضايا الحياة اليومية، والفلسفة الخضراء – مقدمة في فلسفة البيئة، كما أنجز ترجمات مهمة أثْرت المكتبة العربية، منها: الدين والفلسفة لكولنجوود، استفزازات فلسفية لديفيد بيرش، التصوف المسيحي لتوماس ميرتون،
وأخيرًا حول العدالة على كوكبنا لكوك تشور تان، ثم دينيس ديدرو والحركة الموسوعية ل.. جون مورلي، إلى جانب مشاركته في ترجمات جماعية مهمة.بهذه الخلفية المعرفية، تبدو ترجمته لكتاب «حول العدالة على كوكبنا» أكثر من مجرد جهد لغوي؛ إذ يمكن اعتبارها مساهمة فكرية في فتح نقاش عربي مع قضايا العدالة الكونية، حيث تتشابك أسئلة الفقر واللامساواة مع أخلاقيات المسؤولية العالمية، ويتعانق الجدل النظري مع الحاجة الملحة إلى أفق إنساني مشترك.وإن كان المترجم يوضح أن كوك أشار إلى عدد من القضايا العالمية الضاغطة كالمواطنة الكوزموبوليتانية أو المسؤوليات والواجبات المشتركة، بقدر من الحياء والمواربة بل ويوضح مفارقة واضحة؛ مفادها أن المادة التي يعكف كوك على تدريسها هي : العدالة العالمية؛ لكنه في الوقت ذاته يلتمس إليه العذر، لأن خطابه هذا كان موجهًا إلى طلاب جامعته بالأساس وليس إلى عموم القراء والباحثين.كما يضع يده على إشكالية أكبر، تكمن في التناقض بين المواطنة والنظام العالمي الجديد من ناحية، والواقع الذي يعاني أهله الجوع أو محاولة الهروب من نير الحرب من ناحية أخرى. يتضمن الكتاب أحد عشر فصلا، إضافة إلى خاتمة والهوامش وقائمة بالمصادر والمراجع؛ مما يجعل العمل مرجعًا في حد ذاته للباحثين في تلك القضايا، جاءت عنوانات الفصول: الفقر العالمي، المساواة الاقتصادية العالمية، ضد المساواتية العالمية، القومية والمشاعر الوطنية، عالمية حقوق الإنسان، حقوق الإنسان وسيادة الدولة، والثقافة، والجندر، الحروب العادلة والتدخل الإنساني ، الحدود والهجرة، والانفصال، والإقليم، عدالة التغير المناخي، تقاسم العبء، الديمقراطية العالمية: الكوزموبوليتانية مقابل الدولية.
فيتحدث أكثر تفصيلا بشكل لا تنقصه الأكاديمية المسؤولة عبر محاور بحثية أفردها لتغطية الطرح المقدم. على سبيل المثال في الفصل السادس الموسوم ب.. عالمية حقوق الإنسان، يقول تان:
إن حقوق الإنسان مكفولة لكل الأفراد بغض النظر عن جنسيتهم، أو قوميتهم، أو ثقافتهم، أو أي شكل من أشكال الارتباط الجمعي، وتؤكد المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على عالمية وفردانية حقوق الإنسان على النحو التالي:
لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي وغير السياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي ، أو الثروة أو المولد، أو أي وضع آخر، وفضلا عن ذلك لا يجوز التمييز على أساس الوضع السياسي أو القانوني، أو الدولي للبلد أو الإقليم، الذي ينتمي الشخص إليه، سواء أكان مستقلا أو موضوعا تحت الوصاية……
حتى يخلص إلى أن عالمية حقوق الإنسان لها آثار عملية مهمة، فبشكل حاسم هي تضع حدا لسيادة الدولة، أي حق الدولة في الاستقلال وارادتها الذاتية في صنع القوانين داخل أراضيها، وتعني أيضًا أن قبول واحترام التنوع الثقافي يجب أن يكون متوازنا مع الاهتمامات المتعلقة بحقوق الإنسان…. ونظرًا لأهمية ذلك الفصل تم الاكتفاء به كمثال مع نرز بسيط من تعقيب؛ بما تسمح سطور المقال به، إذ يشكّل النقاش حول عالمية حقوق الإنسان وإشكالية سيادة الدولة أحد أكثر المداخل إلحاحًا وأهمية في الفكر السياسي والقانوني المعاصر؛ فالمادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا تقتصر على صياغة مبدئية لمجموعة من الحقوق فقط وإنما تنطوي على تحول مفهومي جذري؛ إذ تقرر أن الحقوق لصيقة بالإنسان، بكل ما تحمله الكلمة من معانِ وبمعنى آخر، بغض النظر عن انتماءاته السياسية أو القومية أو الثقافية، وبهذا المعنى، ينتقل الحق من كونه امتيازًا يمنحه مجتمع سياسي محدد لأعضائه، إلى ما يمكن اعتباره معيارًا كونيًا سابقًا على الدولة والقانون الوطني.لكن هذه الانتقالة، بالرغم من أهميتها، لكنها تولّد مفارقة أساسية؛ فمن ناحية، تؤسس عالمية الحقوق لمعيار أخلاقي وقانوني يتجاوز حدود الدولة، ومن ناحية أخرى، تصطدم بواقع التعدد الثقافي، والسياسي الذي لا يمكن إنكاره بحال، هنا تنشأ المشكلة أو الإشكالية على الوجه الأصوب؛ فكيف يمكن احترام الخصوصيات الثقافية والروابط الجمعية، من دون أن يتحول ذلك إلى تبرير لانتهاك الحقوق الكونية؟
هذا السؤال يضع الفكر السياسي أمام مساحة ضبابية دائمة الوجود بين النسبية الثقافية والكونية الحقوقية، وهو التوتر الذي لم يُحسم حتى الآن، ويتناسل بإرثه من قضايا الهجرة والمجاعات والنزوح، إلى الصراعات الأهلية، إلى مسألة التغير المناخي وما تفرضه من التزامات عابرة للحدود.
وفي السياق ذاته يكتسب استدعاء مقولة كارل ماركس أهميته، تلك التي يختتم المؤلف عمله بها قائلا : “لم يقدم الفلاسفة حتى الآن سوى محاولات تفسير العالم بطرق مختلفة، لكن المسألة هي كيفية تغييره” فالإعلان عن الحقوق، مهما بلغت دقته النظرية، يظل قاصرًا إن لم يُقترن بآليات مؤسسية تتيح تحويل المبدأ إلى ممارسة، وتُمكّن من محاسبة الدول والفاعلين الدوليين على خرقه والاستهانة به، إن العالمية، بهذا المعنى، ليست غاية مكتملة بقدر ما هي من أهم المشروعات المفتوحة التي يتطلب التسديد في شباكها البناء المتواصل لمؤسسات ومعايير قادرة على تجاوز حدود السيادة التقليدية.
أما من الناحية المنهجية؛ فإن القيمة البارزة لهذا العمل لا تكمن فقط في عرضه الجدلية، أو تبيان المفارقات بين المتاح وبين المأمول بل أهمية العمل تتمفصل في صرامته الاصطلاحية؛ فقد حرص المؤلف على إيراد المصطلح بينما عمل المترجم على ضبط المفاهيم وتدقيقها؛ بحيث لا ينزلق القارئ العربي إلى الخلط بين الخطاب الحقوقي المعياري والتوظيف الأيديولوجي لمفرداته. ومن ثم يصبح هذا الكتاب إسهامًا نوعيًا في مسار النقاش حول العدالة العالمية، لأنه يرسخ الوعي بضرورة دقة المصطلح وشفافيته كشرط أولي لأي ممارسة حقوقية ناجحة.
وفي النهاية يكفينا القول بأن هذه الصرامة المنهجية تكشف أن الفلسفة السياسية، حين تقارب قضايا الكونية والحقوق، لا تقف عند حدود التجريد، وإنما تستبطن دائمًا رهانات الواقع، ومن هنا، تتجلى قيمة العمل في أنه يضعنا أمام مسؤولية مضاعفة؛ مسؤولية الفهم الدقيق للمفاهيم، ومسؤولية تحويلها إلى قوة تغييرية على كوكبنا الذي لم يعد يحتمل الغموض الاصطلاحي أو التبرير الأيديولوجي.
……………………………………………
منال رضوان – عضو لجنة التنمية الثقافية ومنظمات المجتمع المدني بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر