الطريق إلى كتاب (أسطورة سيبويه من مشارف الشك إلى مشارق اليقين) / د. هادي حسن حمودي

هيئة التحرير9 سبتمبر 2025آخر تحديث :
الطريق إلى كتاب (أسطورة سيبويه من مشارف الشك إلى مشارق اليقين) / د. هادي حسن حمودي

(1)

تنقسم البحوث في العلوم الإنسانية، خاصّة، كعلم الاجتماع والتاريخ والأدب والفن والنقد واللغة وما إليها، إلى قسمين يفترقان ولا يلتقيان، إذ لا شك بوجود فرق كبير بين:

  • بحث ينطلق بحياد وموضوعية، من نقطة الصفر متجها نحو وجهة يحدّدها البحث لا الباحث.
  • وبحث ينطلق به الباحث من قناعة له مترسِّخة متجمدة لا يمكن تفكيكها مهما كانت الأدلة واضحة على خطئها، ومهما كانت البراهين ساطعة تكشف زيف تلك القناعة وخطلها.

وإني لأقول إني انطلقت من الصفر في بحثي هذا خاصة.

فلقد درّست أشياء عن الكتاب في عديد من الجامعات، ومع مرور الأيام والأعوام بدأت تتكون عندي ملاحظات معيّنة في كثير من جوانب الدرس اللغوي والنحوي بالدرجة الأولى. وبالمتابعة بدأت أرى أن خطأ قد وقع في نسبة الكتاب لسيبويه ففي بادئ الأمر، ولأنْ لا عُنوان للكتاب، ولا عليه اسم مؤلف، فقد أطلق الأخفش عليه (كتاب سيبويه) ولم يكن أمامه أيّ سبيل آخر لتسمية مغايرة. وكان الأخفش ومن معه يعرفون أن التسمية تسمية تملّك لا تسمية إبداع.

وبمرور السنين نُسب الكتاب إلى سيبويه لا على أساس أنه راوية للكتاب بل على أساس توهّمٍ قادهم إلى القول بأنه مبدع الكتاب. وكانت تلك النسبة من القدماء قد أوقعت الباحثين إلى هذه الأزمنة بتناقض الفكرة والتطبيق. أما الفكرة فإجماع القدماء على أن عامّة الحكاية في الكتاب عن الخليل، وأما التطبيق فإن جميع الدراسات عن سيبويه، قديمة وحديثة، نسبت إليه كل ما في (الكتاب) فأين ذهبت مقولة: عامة الحكاية عن الخليل في كل الكتاب؟

ظل ذلك التناقض معلقا عندي. وكان من الصعب أن أتفرغ لبحثه لظروف شتى. ولكنه ما استكنّ، فقد كان يُعاودني من حين لآخر، ثم تشغلني عنه شواغل، ويعود فينبثق في تفكيري كلما سنحت له فرصة الظهور.

فبدأت أنظر في (الكتاب) المنسوب لسيبويه، وأحلل الأسلوب، وأتابع تسلسل محاضرات الخليل فيه، ودور سيبويه فيها، وقرنتها بظروف حياة سيبويه القصيرة (32 عاما). فصرت إلى اليقين أكثر فأكثر بأنّ وَهْمًا قد وقع في نسبة الكتاب. وكان قد أثر فيّ كثيرا اطلاعي على بعض مخطوطات الكتاب، وتحقيقه على يد المحققين ومنهم عبد السلام هارون، وخاصة المقدمة التي كتبها للكتاب وتناقضه في تحديد وفاة الخليل مرة (175 للهجرة (المقدمة ص12، ، ومرة 161 المقمة ص 24)

(2)

من هنا بدأتُ العودة، باهتمام أكثر عمقا، إلى الروايات التي دارت حول الخليل وسيبويه وحكاية (الكتاب) من كونه محاضرات للخليل إلى تجميعه في مخطوطات مجزّأة وإلى جمعه في تحقيق أول وتحقيق ثان. وجدت أن نسبته لسيبويه إبداعا لا تملكا، خطأ انبنى على وَهْم نتج من سوء فَهْم مصطلح (كتاب سيبويه). وصار من شأن هذا المصطلح أن أضاع دور سيبويه في الكتاب وهذا الدور لا يتجاوز تدوين المحاضرات، وتوجيه أسئلة للخليل وتثبيت إجاباته لها. وإضافة هنا وهناك منه هو، وبعض روايات عن يونس. ولم يشكّل كل ذلك إلا صفحات معدودة من الكتاب، ربما في حدود عشرين صفحة من أصل ما يزيد على ألفين من الصفحات بتحقيق هارون.

وتتوالى قرون بعد قرون، أربعة عشر قرنا، وقد تكاثرت الروايات التي نقلت تلك الأوراق التي لم يكن عليها أي عنوان ولا أي نسبة لمؤلف، إلى كتاب معنون بـ(الكتاب) ونُسب لسيبويه، وصار (كتاب سيبويه) و(قرآن النحو) وصار سيبويه الإمام الملهم من رب العالمين، حسب تصريح عديد من الباحثين السيبويهيين. وهم يعترفون بأن نسخ (الكتاب) لم تسلم من تدخل النساخين والنحويين عبر القرون.

ونرى أن تلك التدخلات هيأت للكتاب مظهرا خارجيا نجح في تسويق فكرة أن المبدع للكتاب هو سيبويه، وهي فكرة تعمَّق ترسّخها بمرور تلك القرون، حتى إذا بدأ عصر الطباعة حدثت تدخلات من المحققين والناشرين، كالنسخة التي ظهرت في بولاق، ومن قبلها في باريس، مع إضافات عديدة مثل تكرار الترحم على الخليل. وهو الترحم الذي لم يشمل غير الخليل من صحابة وتابعين أجلاء. كما اختلفت النسخ في موارد مجيء صيغة الترحم.

(3)

والملاحظ أن أصل (الكتاب) فريد من نوعه، فهو صفحات فحسب، ليس له عنوان، ولم يضع أحد اسمه عليه بصفته مؤلفا له ومبدعا. صفحات الكتاب كلها تخلو من ذكر مؤلف له، ولا تتضمن اسم سيبويه، وليس فيه مقدمة. وأول نسخة مخطوطة منه ظهرت بعد أكثر من ستمائة سنة من وفاة الخليل وسيبويه الكتاب، تـ، هارون، 1/44 وما بعدها.

وحين بدأت البحث، تصورت أني في زورق وفي الزورق شراع، والزورق أسلم أمره لمسار النهر، والرياح تأخذه يمينا ويسارا حتى يستقر في ميناء أو على ضفة، وآليت أن أقبل الميناء الذي سيرسو فيه، والضفة التي سيتوقف عندها أيّا كان وأيَا كانت.

ذلك لأن أمامنا مسارين متكاملين لمعرفة المؤلف الحقيقي للكتاب الموسوم بكتاب سيبويه، فرأينا أن نمعن النظر في مجريات حياة الشخصيتين، شخصية الشيخ وشخصية التلميذ الذي أخذ عنه، ثم ننظر في الروايات ذات العلاقة بالكتاب، ومن بعدها نحلل مادة الكتاب ذاته. لنصل إلى حقيقة نسبة الكتاب لسيبويه، هل هي نسبة إبداع، أم نسبة تملّك؟

ابتدأت الكتاب بهذه السطور التي تطالعها الآن من المقدمة الأولى. ثم مقدمة أخرى عن معنى التأليف والمحاضرة والفرق بينهما.

وبعد أن استقام لنا ذلك تناولنا الموضوع بفصول تتكامل فيما بينها.

وندرك أن التعامل مع هذا الموضوع عسير جدا لا بسبب عسرة من داخله، بل بسبب عسرة من خارجه. فقد مضت أربعة عشر قرنا والناس على اعتقاد أن (الكتاب) من إبداع سيبويه، فأحَلّوا سيبويه المَحَلّ السامي بظنهم أنه هو مبدع (الكتاب). والحقّ أنه لولا محاضرات الخليل فيه لما عرف أحدٌ مَن هو سيبويه.

(4)

ولإزالة تلك العسرة، علينا أن نتبع المنهج الذي توحيه لنا نصوص الكتاب وما حوله وهو المنهج الذي به تتيسّر السبل الممكنة للتعامل مع نسبة (الكتاب) للخليل أو لسيبويه. وما من سبيل لذلك إلا بهذه الوسائل:

* مقدمة عن البحث ومقدمة ثانية عن الفرق بين التأليف والإبداع.

* التعريف بشخصية الخليل، لمعرفة صفاته، وملامح شخصيته، وصولا لتبيّن مدى علاقته بمضون الكتاب.

* التعريف بشخصية سيبويه، للهدف ذاته. فإننا لا نهدف إلى غمط حق أحد، وليس لدينا هدف إلا الكشف عمّن أبدع الكتاب.

* الكشف عمّا حول الكتاب من روايات، وتحليلها تحليلا دقيقا، وبيان سبب إطلاق نسبة الكتاب لسيبويه.

* الكشف عن مضمون الكتاب. وتثبيت صفات الشخصية التي يمكنها إبداع الكتاب.

* إن ما جاء من بيان الصفات الشخصية لكلٍّ من الخليل وتلميذه سيبويه، يساعد الباحث على أن يتوصل إلى مَن يجب أن يُنسب الكتاب، تثبيا للحق لا لغيره.

* وفي طوايا ذلك جاء الرد على جميع الاعتراضات الموجّهة لهذه النسبة.

هنا تنتهي مهمة هذا الكتاب. وفي حالة مواصلة مشروع (كتاب النحو للخليل برواية سيبويه) يعدّ هذا الكتاب مساعدا لبناء مقدمة لكتاب النحو.

* ويهدف (كتاب النحو للخليل برواية سيبويه) إلى إعادة تحقيق الكتاب تحقيقا علميا، وإثبات محاضرات الخليل في متن الكتاب، وتزيين حواشيه بإضافات سيبويه، التي لا تتجاوز بضع صفحات. من مثل: (هذا قول يونس والخليل ومن رأينا من العلماء) الكتاب 3/282. و(فإن سميت المؤنث بعمرو أو زيد لم يَجُز الصرف. هذا قول ابن أبي إسحاق وأبي عمرو فيما حدّثني يونس وهو القياس) الكتاب 2/23. و(إني سمعت رجلين من العرب عربيين يقولان: كان عبد الله حسبُك به رجلا) (الكتاب 2/28) وأمثالها. وهذه العبارات وأمثالها، على قلّتها، تبيّن لنا المستوى العلمي واللغوي لسيبويه.

ثم وضعنا خاتمة موجزة للبحث، ثم سرد المصادر والمراجع.

(5)

ولقد رأينا أن أبرز إصدارات الكتاب في العصر الحديث تتمثل في:

* أول طبعة من الكتاب المنسوب لسيبويه كانت بعناية الفرنسي الموسوي (أي من الديانة اليهودية) هرتفيك بن يوسف دارنبور (‏Hartwig Derenbourg) (1844 – 1908 م) أخرجها على أربع قطع من نسخها المخطوطة في مكتبة باريس الوطنية (انظر: المخطوطات العربية في مكتبة باريس الوطنية، د. هادي حسن حمودي، ص 203/ بيروت/ 1406 هـ -1986م).

* وعنها صدرت طبعة بولاق (1898-1900) على نفقة السيد (فرج الله كيشاني الإيراني).

* وعنها صدرت – حرفيا – طبعة المرحوم: عبد السلام هارون.

صيغة الترحم على الخليل:

وكثر فيها تكرار صيغة الترحم على الخليل بن أحمد لا بصيغة (رحمه الله). بل (ر~ه) وهو رمز لم يكن معروفا في القرن الثاني للهجرو. والمثير للتعجب أن صيغة الترحم ظهرت في الجزء الأول 27 مرة وفي الجزء الثاني 105 مرات. ولم تظهر في الجزء الثالث ولا في الجزء الرابع، حسب طبعة هارون. ولم يظهر هذا الترحم مع اسم أي شخص آخر حتى إن كان صحابيا أو تابعيا جليلا. ولم يظهر الترحم مع اسم الخليل بن أحمد، في مخطوطات أخرى للكتاب. ذلك لأن الترحم غالبا ما يكون من عمل النسّاخ.

ولقد اقتضى منا هذا البحث أن نعود إلى أكثر من إظهارة للكتاب، ذلك أن النسخ المخطوطة للكتاب متفاوتة القيمة، ولمّا كنّا غير مضطرّين إليها جميعا، إذ ليس من مهمة هذا البحث توثيق أيّ منها، فسنلتزم بثلاث طبعات، وهي من وجهة نظر الباحثين مما نوافقهم عليه أنها أكثر النسخ أهمية. فالنسخ المعتمدة، هي:

* طبعة كلكتا 1887م وعنوانها: (هذا الكتاب اسمه الكتاب وهو في النحو مثل أم الكتاب، بتصحيح المفتقر إلى الله أحد، كبير الدين أحمد).

* طبعة بولاق (1316 – 1318 للهجرة، 1898 – 1900) المشار إليها.

* وأما الطبعة الثالثة التي اعتمدناها فهي طبعة عبد السلام هارون في خمسة أجزاء، عالم الكتب، بيروت، بلا تأريخ.

أما أولى الطبعات فكانت طبعة عن مخطوطة باريس المجهولة اسم الناسح وتأريخ النسخ واحتمل محققها أن تأريخ نسخها (ربما) تمّ في منتصف القرن الثامن للهجرة، أي بعد وفاة الخليل وسيبويه بأكثر من 600 سنة. وفيها معلومات عن الأصل الذي نسخت منه (مقدمة عبد السلام هارون، في: الكتاب 1/44. والحق إنه ليس أصلا واحدا بل أكثر).. وطبعت في باريس بعنوان (كتاب سيبويه المشهور في النحو، واسمه الكتاب) ويبدو أن هذا العنوان من المصحِّح لا من أصل النسخة المخطوطة. وقام بتصحيحه هرتويغ درنبرغ، وكان تأريخ نشر الجزء الأول في سنة 1881م، وأما الجزء الثاني فقد صدر بعد ثماني سنوات، في سنة 1889. ومن الطريف أن محققه رجّح تأريخ تأليف الكتاب في سنة 150 للهجرة، مع أنه ذكر قبل ذلك بقليل أن سيبويه ولد سنة 148 للهجرة. أي إن سيبويه ألف الكتاب وعمره سنتان! وذكر أن النسخة التي صحّحها قد صنعها من عدة مخطوطات. ولذا فإن وصف تلك الطبعة بأنها ملفّقة من عدّة نسخ، وصف صحيح سليم.

ومنها ظهرت الطبعات في الهند والقاهرة وغيرهما. ولم نستفد منها شيئا، وإنما تحدثنا عنها إشارة إلى أنها أولى الطبعات، وكانت بداية تحقيق (الكتاب) وتعريف الناس به على يد مصحح الطبعة الفرنسي هرتفيك بن يوسف دارنبور هو مستشرق فرنسي موسوي (أي: إسرائيلي).

(6)

وبهذا التسوير للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من نصوص (الكتاب) وضعنا هذا البحث بحسب المنهج الملائم له. وحاولنا، جهد الإمكان، أن نعرض الكتاب بأسلوب واضح جليّ يتجنّب تعقيد الدراسات النحوية.

وسيتبعه التطبيق العملي لكشف النحو الخليلي في الكتاب اللاحق (كتاب النحو للخليل بن أحمد برواية سيبويه) ومن الله التيسير.

عاجل !!