الشاعر عدنان علي يقدم الرثاء لنفسه في مجموعته الشعرية ( الأشجار تومئ لخضرتها)
النهار / حمدي العطار
مقدمة
في مجموعته الشعرية “الأشجار تومئ لخضرتها” يقدم الشاعر عدنان علي تجربة ذاتية تميل إلى الرثاء الداخلي، حيث يحاور ذاته بلغة مشبعة بالحزن والحنين والعتاب. هذه القصيدة، التي منحت المجموعة عنوانها، ليست هي وقفة تأملية عابرة، بل مرثية للشباب والقوة والزمن الجميل، صاغها الشاعر بصوت مزدوج يراوح بين “الأنا” و”الأنت”، بين الاعتراف واللوم، وبين استعادة الذكرى واستشعار الفقد.
*التحليل
- البنية الخطابية (أنت/أنا):
تبدأ القصيدة بنداء موجه إلى “أنت”، لكنه في الحقيقة لا يتجاوز الذات الشعرية نفسها، وكأن الشاعر يقف أمام مرآة وجوده ليعاتبها. هذا الأسلوب يفتح مجالا للتأمل في الهوية المنقسمة: الشاعر هو المخاطب والمخاطَب في آن واحد. تكرار “أنت” يضفي نبرة من التوكيد، ويحول الحوار الداخلي إلى مواجهة وجودية.
- الصور الشعرية:
في قوله: “أنت من قايض شكوى الريح حكمتها”، يحول الشاعر الريح إلى رمز للقلق والتيه، في مقابل الحكمة التي كان يفترض أن تمنح الاستقرار. كذلك، حين يقول: “أنت من وسوس للمرآة أن تنجو بشيخوخة ظني”، تصبح المرآة شاهدا على تحول الزمن وانكسار الصورة القديمة، إذ لم تعد تعكس الشباب بل شيخوخة الظن والخيبة.
أما في: “أنت من ساوم في البعد أزاهير ذبولي/ وارتضيت الطين، دفء الطين تاجا للمغيب”، تتجلى مفارقة قوية: الأزهار الذابلة كرمز لذوى الشباب، والطين الذي يتحول من مأوى للفناء إلى تاج يزين الغروب، صورة تختزل جمال الموت أو تسليمه كقدر محتوم.
- التحول من “أنت” إلى “كنت”:
في المقطع الثاني يتخلى الشاعر عن المخاطبة المباشرة ليعود إلى ضمير الذكرى: “كنت تكيل العثرات فيضا من مداك/ وقناديل حقول الفجر شيئا من أساك”. هذا الانتقال من الحاضر إلى الماضي يكشف عن تدرج النص من المواجهة إلى الاستعادة، ومن العتاب إلى الرثاء. هنا تبرز نغمة الحنين إلى زمن كان فيه الحلم حيا والأفق مفتوحا.
- التناقضات والدلالات الوجودية:
يكثر الشاعر من المفردات المتقابلة: (الريح/الحكمة – البعد/الدفء – الأزهار/الذبول – الفجر/الأسا – البرد/الشتاء). هذه المقابلات ليست مجرد زينة بلاغية، بل أداة فنية لإبراز الصراع الداخلي بين الحيوية والذبول، وبين الرغبة في البقاء والاستسلام للفناء.
- الإيقاع واللغة:
على الرغم من أن النص مكتوب على شعر التفعيلة (الشعر الحر)، إلا أن الشاعر استطاع أن يحافظ على إيقاع داخلي ناتج من تكرار “أنت” و”كنت”، ومن تراسل الأصوات مثل “الذال” و”السين” و”الطاء”. هذا الإيقاع الداخلي يعوض غياب الوزن التقليدي، ويخلق موسيقى خاصة تحمل نبرة حزينة متقطعة أشبه بأنفاس متعبة.
*خاتمة
قصيدة “الأشجار تومئ لخضرتها” ليست هي نصٍ عاطفي، بل مرثية عميقة للذات وللزمن الذي يتسرب كالماء من بين الأصابع. عبر مخاطبة “الأنت” في مرآته الداخلية، وعبر استدعاء الذكريات والرموز المتقابلة، نجح الشاعر عدنان علي في أن يكتب نصا يتجاوز حدود التجربة الفردية ليغدو شهادة إنسانية عن الفقد والتحولات الكبرى في العمر والروح. هذه القصيدة، التي تتوّج مجموعته الشعرية، تؤكد أن الشعر حين يواجه ذاته يتحول إلى أثر خالد يلمس القارئ ويعيد اكتشاف معنى الحزن والجمال في آنٍ واحد.