الشاعرة فاتن ابراهيم حيدر .. متواليات النصر والانكسارات قراءة /  محمد دويكات

هيئة التحرير3 أغسطس 2025آخر تحديث :
الشاعرة فاتن ابراهيم حيدر .. متواليات النصر والانكسارات قراءة /  محمد دويكات

في عالم يتراكم فيه غيم الحنين وتتلاشى فيه ألوان الفرح، تُسدل الشاعرة فاتن إبراهيم حيدر ستارًا على مشهدٍ من الوحدة والانكسار. تبدأ قصيدتها بصرخة “حتى أنت”، لتمهد الطريق أمام بوحٍ عميق عن لحظة فقدانٍ تامة، حيث تتساقط الأحلام وتتحول الذات إلى بقايا زقاق مهجور. إنها ليست مجرد أبيات شعرية، بل هي لوحة فنية ترسم ملامح الروح حين تعصف بها رياح الخذلان، وحين يستيقظ المرء ليجد شمسه قد غابت، ومرآته قد تحطمت، وكل ما حوله ينطق بالصرح والغياب.

العنوان كمدخل لعمق النص

يُشكل العنوان “حتى أنت” مفتاحًا دلاليًا للنص، فهو يعبر عن صدمةٍ عميقةٍ وخيبة أملٍ من شخصٍ أو شيءٍ كان يُعول عليه، ما يُنبئ بمضمونٍ مليءٍ بالحسرة والفقد. هذا التعبير يختزل فكرة الغدر أو الهجر من أقرب المقربين، ويضع القارئ مباشرةً في قلب التجربة الشعورية المؤلمة.

تراكمات الحنين والفقد

يبدأ النص بتصويرٍ حسيٍّ لمعاناة الذات: “فوق رأسي تتراكمُ سُحبُ الحنينِ / وعلى كتفي يعبرُ النهارُ”. هنا، تتجسد المشاعر ككياناتٍ ماديةٍ ثقيلة، فالحنين ليس مجرد شعورٍ عابرٍ بل سحبٌ متراكمةٌ تثقل كاهل الروح. وعبور النهار على الكتف يُشير إلى مرور الوقت بصعوبةٍ وثقلٍ، وكأن الأيام لا تجلب سوى المزيد من الأعباء.

فقدان الزمن وكسرة الفرح

تصل الشاعرة إلى ذروة الإحساس بالضياع حين تقول: “فقدتُ زمني / أعيشُ على كسرةِ فرحٍ / وعلى شفتي بقايا لحنٍ”. يُعبر فقدان الزمن عن حالةٍ من التيه الوجودي، حيث تتلاشى معالم الحياة وتفقد معناها. أما العيش على “كسرة فرحٍ” فيُبرز مدى شح السعادة في حياة الشاعرة، وكيف أنها تقتات على بقايا ذكرياتٍ جميلةٍ أو لحظاتٍ نادرةٍ من البهجة. “بقايا لحنٍ ينسكبُ على صُحفِ المواعيدِ” صورةٌ مؤلمةٌ ترمز إلى الأمل الذي تلاشى، فالألحان التي كانت تبعث البهجة أصبحت مجرد بقايا تنسكب على وعودٍ لم تتحقق.

تحطم الروتين الجمالي واليومي

تأخذ الشاعرة القارئ في رحلةٍ إلى داخل غرفتها لتكشف عن تحولٍ جذريٍّ في حياتها اليومية وجمالها الخاص. الاستيقاظ على غير العادة ورفض تصفيف الشعر وارتداء أجمل الأثواب، وإهمال العطور، كل هذا يُشير إلى فقدان الرغبة في الحياة والعناية بالذات، وكأن الروح قد انطفأت فلم تعد ترى جدوى في التزين للحياة.

موت الجمال واليأس

“جف ماءُ قرنفلتي / وماتت أزهاري من العطش” تعبيرٌ مجازيٌّ قويٌّ عن ذبول الروح وموت الجمال الداخلي. القرنفل والأزهار التي ترمز للحياة والجمال أصبحت جافةً وميتةً، ما يُشير إلى قفاف المشاعر وجفاف الروح. أما “اليومَ ليس لي” فيُختصر به حالة العجز واليأس، وكأن الشاعرة فقدت السيطرة على يومها وحياتها.

عواصف الحسرات وانفجار الآهات

تتوالى الصور المؤلمة لتصف شدة المعاناة: “تساقطت أحلامي / حاصرتني عواصفُ الحسرات / فزأرت مواويلُ روحي / وانفجرت آهاتي”. هنا، تُصور الأحلام وهي تتهاوى، ما يعكس خيبة الأمل الكبيرة. “عواصف الحسرات” تُجسد المشاعر السلبية وهي تُحاصر الروح، لتصل إلى ذروتها بـ “زئير مواويل الروح” و”انفجار الآهات”، وهي تعابير تُجسد صرخةً داخليةً مدويةً من الألم.

اللجوء إلى “الغيوم الصغيرة” والرمزية المكسورة

“أسرعتُ إلى غيمتي الصغيرةِ / أستمطرها وقتَ الجدبِ” تُشير هذه الصورة إلى محاولة الشاعرة البحث عن بصيص أملٍ أو مصدرٍ للمواساة في لحظات اليأس القاحلة، حتى لو كان هذا المصدر ضئيلًا (“غيمتي الصغيرة”). لكن هذه الغيمة لا تُسقيها بما تبتغي، بل يتبعها قرار بعدم وضع “حُمرتي اللاهبة” وعدم انتعال “كعبي العالي”، ما يُعزز فكرة التخلي عن مظاهر الأنوثة والتألق، كأنها تعلن الحداد على نفسها وعلى ما فقدته.

انهيار الصورة الذاتية والواقع المرير

“استيقظتُ فلم أجدْ شمسي / مرآتي محطمةٌ تعكسُ / بقايا زقاقٍ مهجورٍ” تُشكل هذه المقاطع ذروة الانهيار النفسي. الشمس ترمز للأمل والحياة، وغيابها يُشير إلى ظلمةٍ شاملةٍ. المرآة المحطمة هي رمزٌ لتحطم الذات والصورة الذاتية للشاعرة، وما تعكسه ليس وجهها الجميل بل “بقايا زقاقٍ مهجورٍ”، ما يدل على شعورها بالتهميش والضياع في عالمٍ قاحل.

الغرفة المظلمة ورفض النور

تنتقل الشاعرة لتصف غرفتها المظلمة، ونوافذها التي تأبى أن تُفتح، والستارة المنسدلة التي ترفض شعاع الشمس. هذه الصور تُجسد حالة الانغلاق على الذات والرفض التام للنور والأمل. الغرفة هنا ليست مجرد مكانٍ ماديٍّ بل هي انعكاسٌ لحالة الروح المنعزلة عن العالم الخارجي.

صمت الفراغ والرحيل

“هل طردتْ عصفوري / فلم ينقرْ برفقٍ كعادتهِ / ولم تدخل الفراشةُ لتَقومَ بجولتها الصباحيةِ على سريري؟” تتساءل الشاعرة بأسى عن غياب الطيور والفراشات، وهي رموزٌ للحياة والجمال والبهجة. غيابها يُشير إلى أن عالمها أصبح خاليًا من كل ما كان يبهجها. هذا الفراغ يُتوجه سؤالها الحارق: “أين الجميع؟ / ما هذا الصمت؟” ليأتي الجواب الموجع: “كلهم رحلوا”.

“حتى أنت”: تتويج للألم

تُختتم القصيدة بعبارة “حتى أنت” التي يتكرر صداها في العنوان، وهي تتويجٌ للألم. هذا النداء الموجه إلى “يا من تركتَ خلفكَ / مئاتِ المواويلِ الجريحةِ / والناي الحزينِ / على عتبةِ الوجعِ” يُشير إلى شخصٍ أو كيانٍ كان مصدرًا للجمال والفن (المواويل والناي) لكنه أصبح سببًا في الألم والحسرة. هذا الرحيل الأخير، رحيل “أنت”، هو القشة التي قصمت ظهر البعير، وهو ما يُعمق الحسرة ويجعلها لا تطاق.

ختامًا:

تُقدم الشاعرة فاتن إبراهيم حيدر في “حتى أنت” نصًا نثريًا عميقًا ومليئًا بالصور المؤثرة التي تُعبر عن حالةٍ من الضياع، والفقد، واليأس. النص رحلةٌ في أعماق النفس البشرية وهي تواجه انهيار كل ما كانت تعول عليه، لتُصبح وحيدةً في غرفةٍ مظلمةٍ تعكسُ بقايا أحلامٍ محطمةٍ. لغة الشاعرة شفافةٌ ومباشرةٌ، وتُجيد استخدام الرمزية لتوصيل المشاعر المعقدة، ما يجعل النص قطعةً أدبيةً مؤثرةً تبقى في ذاكرة القارئ.

البنية والموضوع

يتطور الشعور باليأس والفقدان عبر الأبيات بشكل تدريجي وتصاعدي:

 * تبدأ القصيدة بوصف تراكم الحنين وشعورها بفقدان الزمن، مما يشير إلى بداية الانهيار.

 * تنتقل بعد ذلك إلى وصف إهمالها لذاتها ومظاهر أنوثتها، مما يدل على تعمق اليأس وتراجع الاهتمام بالحياة.

 * تصل إلى ذروتها بوصفها للغرفة المظلمة والمرآة المحطمة وغياب العصفور والفراشة، وهي صور تعكس اليأس المطلق والعزلة.

 * نقطة التحول: تأتي في نهاية النص مع عبارة “حتى أنت يا من تركت خلفك…”. هذه العبارة تكشف عن السبب الرئيسي لكل هذا اليأس والفقدان، وهو رحيل شخص عزيز، وتؤكد على أن هذا الرحيل هو الذي دفعها إلى هذه الحالة المزرية.

المقصود بـ “حتى أنت” في نهاية النص هو الشخص المحبوب أو المعشوق الذي كان يمثل محور حياتها أو مصدر سعادتها. تأثير رحيله على الشاعرة هو الدمار الشامل لحياتها الداخلية والخارجية. لقد ترك وراءه ألمًا عميقًا (المواويل الجريحة والناي الحزين) وجعلها تعيش حالة من الفقدان الكلي والوحدة واليأس.

الفكرة المحورية أو الرسالة التي تحاول الشاعرة إيصالها هي مدى عمق تأثير الفقدان على الإنسان، وكيف يمكن لرحيل شخص عزيز أن يدمر عالمه بالكامل، ويجرده من كل معاني الجمال والفرح والأمل، ليغرق في بحر من الحسرة والظلام.

اللغة والأسلوب

استخدمت الشاعرة سمات لغوية وأسلوبية بارزة لإيصال مشاعرها:

 * التكرار: يظهر في “حتى أنت” في النهاية، مما يؤكد على الصدمة واللوعة من رحيل هذا الشخص بالذات. هذا التكرار يزيد من حدة الشعور بالفقدان والخذلان.

الاستفهام: “أين الجميع؟ ما هذا الصمت؟ هل طردت عصفوري؟” هذه الأسئلة تعبر عن حيرتها، صدمتها، وشعورها بالوحدة والفراغ الذي خلفه الغياب. إنها تعكس محاولة يائسة لفهم ما حدث.

 * الاستعارات: القصيدة مليئة بالاستعارات البليغة مثل:

   * “تتراكم سحب الحنين”: استعارة توضح ثقل الحنين وتراكمه كغيوم داكنة.

   * “يعبر النهار على كتفي”: استعارة تصف النهار كشيء ثقيل وممل يمر دون أن يؤثر فيها إيجابًا.

   * “كسرة فرح”: استعارة لمحدودية السعادة.

   * “عواصف الحسرات”: استعارة تشبه الحسرات بعاصفة مدمرة تحاصرها.

   * “مواويل روحي”: استعارة للألم الداخلي الذي ينفجر كأغاني حزينة.

   * “مرآتي المحطمة تعكس بقايا زقاق مهجور”: استعارة للذات المكسورة والماضي الخاوي.

 * التشبيهات: وإن لم تكن صريحة دائمًا، فإن الصور التي تقدمها القصيدة تحمل في طياتها تشبيهات ضمنية، مثل تشبيه الحياة بالظل أو تشبيه الذات بالمرآة المحطمة.

يساهم استخدام الأفعال الماضية (فقدت، استيقظت، لم أجد، تساقطت، حاصرتني، زأرت، انفجرت، أهملت، جف، ماتت، رحلوا) في خلق جو من الحتمية واللاعودة واليأس. هذه الأفعال تشير إلى أحداث قد وقعت وانتهت، وأن النتيجة هي الوضع الحالي المؤلم الذي تعيشه الشاعرة. إنها تعزز فكرة أن ما حدث لا يمكن تغييره، وأنها محاصرة بتبعات هذا الماضي الأليم.

رسالة شكر وتقدير على النص الجميل

تتوارى الحروف خجلاً أمام نصكّ الباذخ، وتصمت الكلمات عجزًا عن وصف ما أثارته فينا من مشاعر. لقد لامس هذا النص الشفاف وتراً عميقاً في الروح، وكأن كل كلمة فيه قد نُسجت من خيوط الألم والأمل، لتُشكل لوحة فنية فريدة تحكي قصة كل قلب عاش لحظات الفقد والحنين.

شكرًا لكِ على هذا الإبحار العميق في زوايا النفس، وعلى هذا البوح الصادق الذي يقطر إحساساً. كل سطر هنا هو نبض حياة، وكل عبارة هي همسة تُوقظ فينا ما كان نائماً. لقد جعلتينا نرى بعينيكِ، ونشعر بقلبكِ، ونتشارك معكِ هذا الألم النبيل الذي يتحول بين أناملكِ إلى إبداع لا يُضاهى.

دمتِ بهذا العالق في الأذهان، وهذا الجمال الذي يسكب الروح. لكِ مني كل التقدير والاحترام على هذا الفيض من المشاعر الذي أتحفتِنا به.

النص

حتى أنت

فوق رأسي  تتراكمُ سُحبُ الحنينِ

وعَلى كَتفي يعبُرُ النهارُ

فقدتُ زَمني

أعيشُ عَلى كِسْرةِ فَرحٍ

وَ عَلى شَفتي بَقايا لَحنٍ

يَنسكِبُ على صُحُفِ المواعيدِ

استيقظتُ علَى غَيرِ عَادَتي

ليسَ عَلى وَقع أنُوثَتي

  لأُصففَ شَعري

وأرتدي أجْمَلَ أَثْوابي

لمْ أُعِرِ اهتماماً لِصَوتِ أنَاقتي

لمْ أُلبّ النداءْ

أَهْملتُ عُطُوري

جَفَّ ماءُ قُرُنفلتي

وَ مَاتتْ أزْهَاري  منَ العَطَش

اليومَ ليسَ لي

تَسَاقَطتْ أحلامي

حَاصَرتني عَوَاصِفُ الحَسَرات 

فزَأرتْ مواويلُ روحي

وانفَجَرتْ آهاتي

أسرعتُ إلى غيمتي الصغيرةِ

أستمطِرها وقتَ الجدبِ ..

اليومَ لنْ أضعْ حُمرَتي اللاهبة..

و أنتعلَ كَعبيَ العالي

ليطْرَبَ على وقعِ خطواتي ..

استيقظتُ فلمْ أجدْ شَمْسي

مرآتي مُحطمةٌ تَعكِسُ

بَقايا زُقاقٍ مهجور

غُرفتي مُظلمةٌ

تأبَى نَوافِذها أنْ تُفتَح 

الستارةُ منسدلةٌ

لا تريدُ شُعاعَ الشمس

غريبٌ أمرُ نَافِذتي المُغلَقة

هلْ طَرَدتْ عُصْفوري

فلمْ ينقرْ برِفقٍ كعادتهِ

ولمْ تَدخُل الفَراشةُ

لتَقومَ بِجَولَتها الصَباحيةِ

عَلى سَريري ؟

أينَ الجَميع ؟

مَاهَذا الصَمت ؟

كلهمْ رَحلوا ،،،!

حتّى أنتْ يَا منْ تَركتَ خلفَكَ

مئاتِ المَواوَيلِ الجَريْحةِ

والناي الحَزينِ

عَلى عتبةِ الوجعِ

حتّى أنتْ !!

عاجل !!