قصيدة “روّاد همسي” للشاعرة المبدعة نجاة الماجد هي لوحة شعرية تفيض بالفخر والاعتداد والبوح الشفيف، وتستحضر حضور الشاعرة في فضاء القصيدة كصوت قيادي ووجدان متمرّد على الانكسار. منذ المطلع تقول:
مساءُ الشعر ياروّادَ همسِي بكم يحلو اللقا ويزيدُ أُنسي
افتتاحية ترحيبية تهيئ المسرح الشعوري للمتلقي، حيث يطلّ المساء محمّلاً بالشعر واللقاء، وتعلن الشاعرة أن وجود رواد همسها يزيد من أنسها، وكأننا أمام أمسية شعرية حقيقية تستقبل فيها الشاعرة ضيوفها.
ثم تكشف عن نور قافيتها:
تجلّى بدرُ قافيتي ضياءً على السُمّارِ يتلو آي درسي
صورة بديعة، حيث تتحول القافية إلى بدر ساطع يضيء للسامرين، ويتلو عليهم دروس الحكمة والمعرفة. هذه صورة شاعرية سامية تُبرز مكانة الشاعرة كمصدر ضياء وإلهام.
وتبلغ القصيدة ذروة الاعتداد بالذات في البيت الثالث:
أنا الورقاء في أيكِّ المعالي أنا الميناء حيث المجد يرسي
الورقاء رمز النقاء والسمو، والميناء رمز الأمان والاستقرار، فتصبح الشاعرة الملاذ الذي ترسو عنده سفن المجد. بيت عظيم يعكس ثقة الشاعرة بمكانتها ودورها في صناعة الشعر.
ثم تمضي إلى الشجن الوجداني:
يزلزلني النوى لكنّ قلبي تصبَّر وامتطى خيلَ التأسِّي
النوى يزلزلها، لكنه لا يفتّ من عضدها؛ قلبها يمتطي صهوة الصبر ويجعل من الألم مصدر قوة. هنا نجد صورة فارسٍ داخلي يواجه ألم الفقد بالتجلّد.
وتلتفت إلى قومها الذين يلومونها:
يعاتبني بنو قومي وإنِّي بهذا الشعر قد أشرقتُ شمسي
البيت هنا يعكس صراع الشاعرة مع مجتمعها، حيث يلومها القوم على جرأتها أو تفرّدها، لكنها تراها شمسها المشرقة التي لا تنطفئ. الشعر عندها رسالة وغاية، لا مجرّد لهو.
وتعلن موقفها الثابت في الفخر والعزيمة:
نسجتُ من القوافي ثوبَ مجدٍ فمهما قيلَ ما نكّستُ رأسي
بيت يقطر كبرياءً، يجعل القارئ يشعر بصلابة الشاعرة وإصرارها على المضي قدماً دون انحناء، مهما كانت التحديات أو الانتقادات.
ثم تعلن عن هويتها في لوحة وجدانية صافية:
أنا يا ليلُ سيدة القوافي أصوغُ الشعر من أنسي وبؤسي
هنا تتجلى الذات الشاعرة بكل وضوح: هي سيدة القوافي، تجمع بين الأنس والبؤس، وتحوّل التجربة الإنسانية إلى شعر خالد.
وتتابع مسيرتها نحو العلياء:
أنا بنتُ إلى العلياء أرنو يُسيّرني إلى الأمجاد حدسي
الحدس هنا يتحول إلى بوصلة روحية تدفع الشاعرة إلى الأمجاد، وكأنها تقول إن الشعر ليس اختياراً بل قدَر تقوده إليه بصيرتها الداخلية.
ثم تنتقل إلى مشهد غزلي شفاف:
أناخَ بمهجتي للحب خيلٌ فصوّب في سماء الشعر قوسي
بيت حسيّ رقيق، يدمج الحب بالشعر في لقطة تصويرية رائعة، حيث تتحول القوافي إلى سهام تُرمى في سماء العاطفة.
وتختم بلوحتين حالمتين:
هناك هناك في قصرٍ مشيدٍ من الأحلامٍ قد ألفيتُ نفسي
هناك هناك في رُكنٍ بعيدٍ أنا ليلى وأنت اليوم قيسي
القصيدة تنتهي في فضاء الحلم والرومانسية، حيث يتحول اللقاء إلى قصة حب أسطورية بين ليلى وقيس، وتدعو الشاعرة الحبيب إلى أن يملأ العمر شعراً:
تعالَ الآنَ نُملي العُمرَ شعراً على غُصنٍ على رملٍ وطرسِ
هذه الخاتمة تمنح النص بعداً حالماً، وتحوله من مجرد اعتداد بالذات إلى دعوة لتخليد الحياة بالشعر، ليبقى الأثر خالداً عبر الزمن.
خاتمة القراءة
قصيدة “روّاد همسي” عمل شعري متكامل، يجمع بين قوة المعنى وجمال الإيقاع ورهافة الحسّ. الشاعرة نجاة الماجد تنسج هنا لوحة شعرية تتأرجح بين الفخر الشخصي، والصراع الداخلي، والدعوة إلى أن تكون الحياة كلها شعراً. اختيار البحر المناسب أضفى موسيقى رنانة على النص، والقافية الموحدة صنعت لحناً داخلياً يجعل القصيدة قريبة من القلب ومتدفقة في السمع إنها قصيدة تؤكد أن الشعر ما زال قادرًا على حمل القيم والمشاعر معاً، وأن صوت الشاعرة يمكن أن يكون منارةً تلهم الأجيال القادمة.