الرمز والكثافة اللغوية في (أوراق مبللة بالجنون) / للقاص علي طعمة داود السلمان

هيئة التحرير22 يوليو 2025آخر تحديث :
الرمز والكثافة اللغوية في (أوراق مبللة بالجنون) / للقاص علي طعمة داود السلمان

  نلاحظ في هذه المجموعة القصصية “أوراق مبللة بالجنون” للقاص علي طعمة، التعمّق في البنية الرمزية واللغوية، دون حرق مباشر لأحداثها، مع الحفاظ على الطابع التأويلي الذي تقتضيه الكتابة الرمزية. ما هو بائن بلا رتوش، للقارئ الحصيف، حيث لا تبحث هذه المجموعة عن بناء قصصي تقليدي، بل تقترب من القصيدة النثرية في روحها، ومن الحكمة المتشظية في لغتها. فضلا عن اقتصاد في الجملة، ورمزية في الحدث، وغموض محسوب في التكوين، يُعيد القارئ إلى النص أكثر من مرة ليكتشفه في زوايا مختلفة ما يضمره القاص، حيث تجعل من القارئ أن يمعن النظر، بل ويدقق بهدف الاكتشاف. المشهد السردي هنا لا يُقدَّم على نحو خطّي، بل يُبنى بصور متلاحقة، تشبه تداعيات الذاكرة أو الهلوسة الواعية.

   صدرت مجموعة “أوراق مبللة بالجنون” للقاص العراقي علي طعمة سنة 2025 عن دار السرد للنشر في بغداد – العراق، في 122 صفحة من القطع المتوسط، وتضم ثمان قصص قصيرة تحمل عناوين: السيدة العجوز، أنا الآخر، صمت، لماذا يحترق البحر، رجل فوق كتفه حمامة، الظل الذي هرب وحيدًا، أوراق مبللة بالجنون، وموت الأسئلة. تنتمي هذه المجموعة إلى السرد الرمزي الذي يستثمر اللغة العالية، ذات التوتر الشعري والاقتصاد في المباشرة، وهي كتابة تنزع إلى كشف الداخل الإنساني المضطرب أكثر مما تسعى إلى تقديم وقائع.

     تشتغل القصص – عموما – على ثيمات الازدواج، الفقد، العزلة، والانكسار الوجودي، وتُقدَّم بشخصيات مقلقة، غالبًا ما تُحاصر بالأسئلة أو الصمت أو الانعكاس الداخلي. في قصة أنا الآخر، على سبيل المثال، ينقل القاص إحساسًا عميقًا بالانقسام النفسي من خلال مرايا الذات المتعددة، فيما تبدو موت الأسئلة صدى وجوديًا للخرس الفكري الذي تفرضه المنظومات المغلقة. أما لماذا يحترق البحر فهي استفهام شعري كبير يتجاوز الظاهر إلى مجازات الغرق والانفجار والحنين.

   في “أنا الآخر”، فهي ربما أكثر القصص انكشافًا عن الذات. الشخصية الرئيسية تبدو في حالة تشظٍّ نفسي، تواجه نفسها وكأنها شخص آخر. هناك ما يشبه الانفصام، لكنه ليس مرضيًا بقدر ما هو تعبير عن صراع داخلي بين ما يجب أن يكون وما هو كائن. تستدعي القصة مفاهيم الهوية، القناع، والازدواج، وتطرح تساؤلات حادة عن من نكون فعلاً حين نُجبر على أن نكون شيئًا آخر. النص متوتر، مشحون، ويعتمد على منولوج داخلي مكثف.

  اما قصة رجل فوق كتفه حمامة تمثّل مثالًا مكثفًا على براعة التكوين الرمزي في المجموعة؛ فالصورة المركزية تبدو بسيطة لكنها تنفتح على احتمالات تأويلية واسعة: هل الحمامة رمز للسلام؟ للضعف؟ أم للعبء؟ وهكذا تنزاح المعاني من السطح إلى الأعماق، وتصبح كل قصة بمثابة تجربة ذهنية ونفسية تضغط على اللغة لتقول أكثر مما يُقال.

   في قصة “أوراق مبللة بالجنون”، لا يوجد جنون بالمعنى الصريح، بل هو تعبير عن هشاشة العقل حين يواجه ما لا يُحتمل: عنف الواقع، شراسة الذاكرة، فقدان المعنى، وربما العجز عن التواصل. وهي، بهذا المعنى، مجموعة تُعيد الاعتبار للسرد بوصفه ممارسة فكرية وجمالية معًا، لا مجرد وسيلة لنقل الحكاية.

“- ماذا تقول أيها المجنون؟

– أقول الصدق، الم تهزأ بالمرأة وتخرجها من قاموس حياتك؟ أنت تحتقر جسدك وترذله وهذه عقيدة لا حل لها، تحصل من خلال تصنع مشوه، لماذا لا تعانقه وتعطف عليه وتعطيه استحقاقه الطبيعي؟” ص 69.

   وحقا تُضاف هذه المجموعة إلى مسار القص العراقي المعاصر، الذي يميل في بعض تجاربه إلى تجاوز الحدث الواقعي المباشر، والتوغل في اللغة بوصفها وسيلة كشف، لا وصف. علي طعمة ينجح هنا في كتابة سردية مكثفة، مشبعة بالرمز، تلتقط نبض الذات الهشة في عالم كثير الصخب.

   القاص، في هذه المجموعة، لا يبحث عن القصة من أجل الحكاية، بل يتخذ من القصة شكلاً لعرض تشظيات الذات واللغة والمكان. القصص تُقرأ كأنها ومضات، لكنها تحمل في عمقها ثقل تجربة كاملة؛ تجربة تتعامل مع الواقع بوعي نقدي رمزي، لا تخلو من الحس الجمالي العالي، ولا من الألم الذي يتسلل خفيًا تحت الجلد. إنها مجموعة تليق بزمن هش، وتمنح الأدب القصير فرصة ليقول ما يعجز عنه الخطاب المباشر، أو حتى الشعر ذاته، حين يكون وحيدًا دون رفيق مجاز.

    القاص علي طعمة لا يسرد الحكايات بقدر ما يفتح جراح الوعي بأسلوب متوتر وشفاف، حيث تتقاطع اللغة العالية مع الرمزية العميقة لتكشف هشاشة الإنسان في مواجهة ذاته والعالم. إنها مجموعة لا تُقرأ مرة واحدة، بل تُترك مفتوحة، كنافذة على وجع لا يُقال بصوتٍ عالٍ، بل يُوشوش على الورق؛ أنه الوجع العراقي.

عاجل !!