قوات الدعم السريع تسيطر على منطقتي كازقيل والرياش وسط حالة من الارتباك والتراجع في صفوف الجيش السوداني.
الجيش السوداني يتراجع في عدد من المحاور بعد خسائر موجعة وقوات الدعم السريع تستولي على 43 عربة قتالية مجهزة بالكامل
الخرطوم / النهار
تشهد ساحة العمليات العسكرية في السودان تحولًا لافتًا في ميزان القوى بعد أشهر من الجمود النسبي، حيث برزت قوات الدعم السريع مجددًا كلاعب رئيسي على الأرض، عقب سيطرتها على منطقتي كازقيل والرياش في ولاية شمال كردفان. هذا التقدم لا يُقرأ بوصفه مجرد كسب ميداني تقليدي، بل باعتباره مؤشرًا على عودة فاعلة وقوية لتلك القوات التي كانت قد منيت بخسائر مؤلمة في معارك الخرطوم خلال الأشهر الماضية.
اللافت في هذه العملية ليس فقط الموقع الجغرافي الذي يشكل مدخلًا استراتيجيًا نحو مدينة الأبيض، بل التوقيت والأسلوب الذي نُفذت به. فبحسب مصادر ميدانية وتصريحات رسمية من الدعم السريع، جاءت السيطرة على المنطقتين بعد معارك وُصفت بـ”الحاسمة” ضد القوات المسلحة السودانية، التي وُصفَت في البيان بـ”جيش الحركة الإسلامية”، إلى جانب الميليشيات المتحالفة معه.
المتابعون للتحركات الميدانية في شمال كردفان يشيرون إلى أن هذا التقدم العسكري ما كان ليتحقق لولا الاستخدام المكثف لسلاح المسيّرات، الذي أصبح ركيزة أساسية في تكتيكات الدعم السريع. وقد قلبت الضربات الجوية الدقيقة التي نفذتها المسيّرات موازين المعركة، مما أدى إلى انهيار خطوط الدفاع الأمامية للقوات الحكومية، وتكبيدها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
واستطاعت قوات الدعم السريع، وفق ما جاء في بيانها، الاستيلاء على 43 عربة قتالية مجهزة بالكامل، بالإضافة إلى تدمير عشرات المركبات الأخرى، وضبط كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر. ويؤشر هذا إلى أن الدعم السريع لم يعد في وضعية التراجع أو الدفاع، بل استعاد زمام المبادرة، مدعومًا بأدوات تكنولوجية عسكرية متقدمة تعيد تشكيل طريقة خوض الحرب في السودان.
في مقابل هذا التقدم اللافت، تشير تقارير ميدانية وتحليلات إلى حالة من الارتباك داخل صفوف الجيش السوداني وقيادته العسكرية، خاصة بعد سلسلة من الضربات الأخيرة التي نفذتها قوات الدعم السريع في مناطق متفرقة. وتداولت مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية شهادات من جنود وضباط تحدثوا عن تراجع الدعم اللوجستي وضعف التنسيق بين الوحدات القتالية، ما يعكس تحديات كبيرة في إدارة المعركة من قبل القيادة العامة للقوات المسلحة.
وتُظهر تصريحات قادة الدعم السريع أن السيطرة على كازقيل والرياش ليست سوى مرحلة تمهيدية لخطة عسكرية أكبر تستهدف الوصول إلى مدينة الأبيض، التي تمثل نقطة ارتكاز استراتيجية في إقليم كردفان. وبحسب البيان العسكري، فإن العمليات تتجه نحو “تحقيق أهداف استراتيجية أوسع”، في إشارة محتملة إلى نوايا التوسع جنوبًا وربما غربًا لاحقًا.
ولا تغيب الأبعاد السياسية عن هذا التقدم الميداني؛ فالدعم السريع حرص في بيانه على دعوة المواطنين إلى “الاصطفاف خلف مشروع التأسيس الوطني”، وهي عبارة تعبّر عن محاولة لإعادة تقديم نفسها كقوة وطنية ذات مشروع سياسي، لا مجرد ميليشيا تقاتل على الأرض.
وفي ظل غياب أي بوادر حقيقية لحل سياسي شامل، يبدو أن الدعم السريع يسعى إلى تعزيز موقعه التفاوضي ميدانيًا، تمهيدًا لأي ترتيبات سياسية قادمة. وهو ما يفسر إصرارها على التوسع في الجغرافيا العسكرية، مع محاولة كسب التأييد الشعبي في المناطق التي تدخلها.
النجاحات الأخيرة التي حققتها قوات الدعم السريع، وإن كانت لا تعني نهاية الصراع، إلا أنها تعكس تحولًا حاسمًا في المعادلة العسكرية بعد أشهر من الخسائر والانسحابات. ويبدو أن دخول المسيّرات كسلاح فاعل في يد الدعم السريع، سيغيّر طبيعة المعركة ويضع الجيش السوداني أمام تحديات غير تقليدية في إدارة حرب استنزاف طويلة الأمد.
وتتزايد قدرة قوات الدعم السريع على شنّ ضربات نوعية ضد الجيش السوداني، وسط تصعيد مستمر في النزاع المسلح الذي تشهده البلاد منذ أكثر من عام. أحدث فصول هذا التصعيد كان في مدينة كوستي بولاية النيل الأبيض، حيث نفذت طائرات مسيرة هجمات مركزة استهدفت مواقع عسكرية ومدنية حيوية، مما يعكس تحوّلًا استراتيجياً في أسلوب المواجهة، ويطرح تساؤلات حول موازين القوى في الصراع السوداني.
وأعلن مجلس السيادة الانتقالي في بيان رسمي، أن مواقع بالغة الأهمية، من بينها محطة “أم دباكر” لتوليد الطاقة الكهربائية – إحدى أكبر المحطات في السودان – قد تعرضت للقصف بطائرات مسيرة، إلى جانب مستودعات للوقود ومطار كنانة ومقرات عسكرية، ما أدى إلى وقوع أضرار مادية كبيرة وانقطاع مؤقت في التيار الكهربائي بعدة مناطق.
كما أكد البيان أن مقر الفرقة 18 مشاة، التابعة للقوات المسلحة السودانية، كان من بين الأهداف الرئيسية للهجوم، حيث اشتعلت النيران في أجزاء من المستودعات العسكرية، فيما تصاعدت أعمدة الدخان فوق المدينة لساعات، وسط حالة من الذعر في أوساط السكان.
وبات استخدام الطائرات المسيرة السلاح الأبرز في ترسانة الدعم السريع خلال الأشهر الأخيرة، ويشكل تطوراً لافتاً في مسار الحرب. فبينما اعتمدت القوات سابقاً على تكتيكات الأرض، فإن تحوّلها إلى استخدام “الدرونز” يضع الجيش أمام معادلة جديدة يصعب احتواؤها بسهولة، خصوصاً مع محدودية أنظمة الدفاع الجوي لدى القوات المسلحة في بعض المناطق.
وشهدت منصات التواصل الاجتماعي تداول مقاطع مصورة، تُظهر الطائرات المسيّرة وهي تحلّق على ارتفاعات منخفضة فوق مدينة كوستي، متجنبة الرادارات، في هجمات اعتُبرت الأكثر جرأة منذ بدء النزاع. وبحسب شهود عيان، فإن الانفجارات الناتجة عن القصف هزت أرجاء المدينة فجر الأحد، وأحدثت أضرارًا واسعة في البنية التحتية.
كما تم استهداف مطار كنانة – المستخدم عسكرياً من قبل الجيش – ما يُعدّ ضربة استراتيجية لقواته في وسط البلاد. ويأتي ذلك بعد يوم واحد فقط من محاولة استهداف منشآت مماثلة في مدينة الأبيض بإقليم كردفان، تمكّنت خلالها الدفاعات الجوية من إسقاط عدد من الطائرات.
في سياق متصل، تتواصل الاشتباكات الميدانية في مناطق مختلفة من البلاد. فقد أفادت مصادر محلية بأن قوات الدعم السريع أحرزت تقدماً غرب مدينة الأبيض، بعد سيطرتها على بلدة العيارة. كما أعلنت في بيان نشرته على حسابها في “تلغرام”، استعادة السيطرة على منطقة كازقيل الاستراتيجية، الواقعة جنوب المدينة.
وبحسب البيان، تم نشر تعزيزات عسكرية على مداخل كازقيل لتأمينها من أي هجمات مضادة. وحتى الآن، لم يصدر تعليق رسمي من الجيش السوداني على هذه التحركات، في حين تزايدت التحذيرات من تفاقم الوضع الإنساني نتيجة المعارك المتواصلة.
تأتي هذه التطورات في وقت تتزايد فيه الضغوط الدولية على الأطراف المتحاربة. فقد أصدرت الرباعية الدولية – التي تضم الولايات المتحدة، السعودية، مصر، والإمارات – بيانًا دعت فيه إلى وقف فوري للقتال واستئناف المسار السياسي. لكن على الأرض، لم تظهر أي مؤشرات لالتزام الأطراف بتلك الدعوات.
وفي خطوة اعتُبرت تحذيرية، أعلنت واشنطن فرض عقوبات على إبراهيم جبريل، وزير المالية في الحكومة السودانية، المقرب من الجيش، وعلى كتيبة موالية له، متهمة إياها بارتكاب انتهاكات خلال الحرب. غير أن فعالية هذه العقوبات في تغيير سلوك الأطراف تظل محل تساؤل، خصوصاً في ظل تصاعد العمليات العسكرية وتعقيد المشهد السياسي والعسكري.
وفقاً لمحللين عسكريين، فإن قوات الدعم السريع تعتمد على حرب العصابات والتكتيكات المرنة في مواجهتها مع الجيش، مع الاستفادة من ضعف منظومات الدفاع الجوي في عدد من المواقع. واستخدام الطائرات المسيّرة بات يُمكّنها من توجيه ضربات دقيقة دون خسائر بشرية مباشرة، مما يزيد من فاعلية عملياتها، ويؤثر معنوياً على الطرف الآخر.
ويرى خبراء أن استمرار هذا النوع من الهجمات قد يُعيد رسم خارطة السيطرة، خاصة إذا استهدفت مواقع استراتيجية مثل المطارات، محطات الكهرباء، والمخازن العسكرية. كما أن الهجمات على البنية التحتية – رغم أنها تُدين دولياً – تشكل ضغطًا مزدوجًا على الحكومة السودانية، داخليًا وخارجيًا.
الهجوم على كوستي وما تلاه من عمليات في الأبيض، يؤكد أن الدعم السريع بات يمتلك قدرة عملياتية متقدمة تمكنه من شن هجمات متزامنة في أكثر من محور. وفي ظل غياب تسوية سياسية، وعدم التزام الأطراف بوقف القتال، يبدو أن البلاد مقبلة على مرحلة أكثر عنفًا، حيث تتقاطع فيها حسابات الداخل مع صراعات النفوذ الإقليمي والدولي.
واعلنت وزارة الخارجية السودانية إن البيان الصادر عن “الرباعية” الدولية لا يلزم السودان في شيء، وإن “أي حديث عن مستقبل البلاد يجب أن يتم بمشاركة السودانيين أنفسهم وبعيداً عن أي وصاية خارجية”، في تصعيد يغلق الباب على جهود السلام مع إصرار الحكومة المدعومة من الجيش على الاحتكام للسلاح وبتحريض من التيار الاسلامي.
وفي لهجة تصعيدية حادة ضد الجهود الإقليمية والدولية لإيجاد حل ينهي الأزمة الإنسانية في البلاد أكدت الخارجية في بيان السبت، على أن الحكومة السودانية “لن تدخل في أي تفاوض مع قوات الدعم السريع المتمردة أو مع داعميها في الداخل والخارج”.
واستهدف بيان الخارجية المتشنج كلا من الإمارات والولايات المتحدة بمزاعم عن دعم الجيش السوداني لتبرير قرارها بالاستمرار بالحرب رغم الأزمة الإنسانية الكارثية التي يعيشها الشعب السوداني.
وهاجمت الخارجية السودانية الإمارات، باتهامها بدعم قوات الدعم السريع بالسلاح والمال، وهي اتهامات سبق أن نفتها أبوظبي مراراً.
كما دعت الوزارة الولايات المتحدة إلى “التعامل بجدية مع مسألة تدفق السلاح الأميركي عبر حلفائها في أبوظبي إلى قوات الدعم السريع”، بينما تواصل واشنطن والرياض لعب دور الوسيط في محاولات التوصل إلى تسوية سياسية، وسط تعثر متكرر لجهود التفاوض وانهيار العديد من الهدن السابقة.
وطالت اللهجة التصعيدية الدول العربية الراعية لمفاوضات السلام حيث وجّهت الخارجية السودانية رسالة إلى السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، محذّرة من “الانشغال بفرض وصاية على السودان بدلاً من مواجهة التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة”، ومؤكدة أن “السودان دولة ذات سيادة ولن يقبل أي ابتزاز أو وصاية سياسية”.
وبدا موقف الحكومة السودانية مدفوعا من التيار الاسلامي الذي يحرض على استمرار الحرب ويعرقل أي مبادرات لوقفها مستخدما تأثيره على قرار الجيش، حيث نشر الأمين العام لـ”الحركة الإسلامية” علي أحمد كرتي بيانا على حسابه في اكس يهاجم فيه بيان الرباعية.
من جهته، اعتبر القيادي بتحالف تأسيس نصر الدين عبد الباري إن بيان الرباعية والعقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية على لواء البراء بن مالك يمثلان “خطوة عظيمة في الاتجاه الصحيح لوقف الحرب”.
وشدد عبد الباري على أن البيان والعقوبات “رسالة قوية من واشنطن إلى الإسلاميين وأنصارهم والمتحالفين أو المتساهلين معهم، بأن العالم لن يقبل بإعادة إنتاج النظام القديم في السودان”.
ويأتي هذا التصعيد بعد يوم من صدور بيان “الرباعية الدولية” التي تضم (مصر، السعودية، الإمارات، الولايات المتحدة)، والذي دعا إلى هدنة إنسانية أولية لثلاثة أشهر تمهيداً لوقف دائم لإطلاق النار لتمكين دخول المساعدات الإنسانية العاجلة إلى جميع المناطق تمهيدا لوقف دائم لإطلاق النار.، ومن ثم إطلاق عملية انتقالية تؤدي إلى حكومة مدنية خلال تسعة أشهر.
وقد رأت القاهرة والرياض وأبوظبي وواشنطن في هذه المبادرة فرصة لكبح الحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل/نيسان 2023.
وجاء في بيان مشترك صادر عن وزراء خارجية الدول الأربع، نشره الموقع الإلكتروني للخارجية الأميركية، مساء الجمعة. أن النزاع أدى إلى “أسوأ أزمة إنسانية في العالم” ويهدد السلام والأمن الإقليميين، مشددا على أن لا حل عسكريا للأزمة.
وجددت الرباعية التأكيد على التزامها بدعم عملية انتقالية شاملة وشفافة يقودها السودانيون، تنتهي بتشكيل حكومة مدنية مستقلة تحظى بشرعية واسعة، مع الدعوة إلى وقف أي دعم عسكري خارجي للأطراف المتحاربة.
وذكر البيان أنه بدعوة من واشنطن، عقد وزراء خارجية الولايات المتحدة ومصر والسعودية والإمارات المتحدة مشاورات موسعة حول النزاع في السودان.
وأكدوا التزامهم بمجموعة من المبادئ المشتركة لإنهاء النزاع في السودان؛ أولها تأكيدهم أن سيادة السودان ووحدته وسلامة أراضيه، تعدّ أساسية لتحقيق السلام والاستقرار.
واتفقوا على أنه لا يوجد حل عسكري قابل للاستمرار للنزاع، والوضع الراهن يفاقم معاناة غير مقبولة ويزيد المخاطر على السلام والأمن.
وتضمنت مبادرة الرباعية إطلاق عملية انتقالية شاملة وشفافة تُستكمل خلال 9 أشهر، بما يلبّي تطلعات الشعب السوداني نحو إقامة حكومة مدنية مستقلة، تحظى بقاعدة واسعة من الشرعية والمساءلة.
واتفق الوزراء على متابعة تنفيذ الجداول الزمنية عن كثب، وأكدوا استعدادهم لبذل جميع الجهود اللازمة لضمان التنفيذ، بما في ذلك إعادة الاجتماع لمناقشة الخطوات التالية.
وأشار البيان، إلى أن الدعم العسكري الخارجي للأطراف المتحاربة يؤدي إلى تأجيج النزاع وإطالة أمده ويهدد الاستقرار الإقليمي، وأن إنهاء هذا الدعم أمرا أساسيا لإنهاء النزاع.
كما التزم الوزراء بدعم تسوية تفاوضية بمشاركة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، والضغط على جميع الأطراف لحماية المدنيين والبنية التحتية وضمان وصول المساعدات الإنسانية.
وأكد البيان، التزام الوزراء بتعزيز أمن منطقة البحر الأحمر، ومواجهة التهديدات الأمنية العابرة للحدود من قبل المنظمات الإرهابية والمتطرفة، وحرمان الجهات المزعزعة للاستقرار إقليميا ومحليا من الاستفادة من استمرار النزاع.
ويخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل/نيسان 2023 حربا أسفرت عن مقتل أكثر من 20 ألف شخص ونزوح ولجوء نحو 15 مليونا، بحسب الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدّرت دراسة أعدتها جامعات أمريكية عدد القتلى بنحو 130 ألفًا.
وتتصاعد دعوات أممية ودولية لإنهاء الحرب بما يجنب السودان كارثة إنسانية بدأت تدفع ملايين إلى المجاعة والموت جراء نقص الغذاء بسبب القتال الذي امتد إلى 13 ولاية من أصل 18.