يشهد المشهد الثقافي والاجتماعي في مجتمعاتنا المعاصرة أزمة متفاقمة لا تقتصر على مظاهر الانهيار المادي، بل تتعداها إلى خسارات عقلية عميقة طالت منظومات القيم، وهدّدت البنى الأخلاقية التي تشكل العمود الفقري لأي نهوض حضاري. وفي خضم هذا التفكك، برز سلوك الفرد كعنصر محوري في تفسير التدهور أو تجاوزه، إذ تتداخل الأنساق الفكرية بالسلوكيات اليومية، ويصبح الفعل الفردي مرآة لانكسارات أشمل في الوعي الجمعي.
ينطلق هذا المقال من تساؤل فلسفي – سوسيولوجي: كيف يمكن تفكيك الإمبراطوريات الوهمية التي نسجها الأفراد حول ذواتهم؟ وكيف نواجه الخسارات العقلية التي عمّقت الانفصال بين القيم المعلنة والممارسات الفعلية؟
إنه بحث في بنية التردي، ومحاولة لإعادة بناء مشروع أخلاقي – سلوكي يبدأ من مراجعة الذات، لا من إدانة الآخر.
في خضمّ هذا الواقع العبثي المتشظي، تبرز تساؤلات مقلقة لا بد أن تُطرَح:
أين مساحات الفكر النقي؟
أين قلقنا الوجودي الدائم؟
أين مجتمعاتنا من إعادة تشكيل الواقع ضمن أطرٍ أخلاقية وفكرية راسخة؟
إننا نعيش على هامش مشهدٍ مأزوم، تتردى فيه القيم، ويتكلّس العقل، وتتماهى الأخلاقيات في خضمّ صراعات طبقية وفئوية متضاربة، لم تُنتج سوى مزيد من التخلّف والانغلاق. المجتمع لا يزال يراوح في مكانه، يدور في رحى الفوضى، متأرجحًا بين وهم الانتماء وميوعة المواقف، بين القيم المدّعاة والانحلال السلوكي.
لقد تحوّلت المواقف تجاه الواقع، ومعها مفاهيمنا عن الحرية والذات والآخر، إلى حالة من التيه والضبابية. فراح الأفراد يزعمون امتلاكهم للحرية، لكنهم عاجزون عن إدراك أبعادها الحقيقية. صارت المفاهيم مشوّهة، والمواقف فارغة، وكأن الفكر قد أُدين بالتجميد، وارتُكب بحقه خنقٌ منهجيّ.وإذا تأملنا هذا الانهيار القيمي والسلوكي، فإننا أمام معطيات متحوّلة، كانت يومًا تُنتج الإبداع، وأصبحت اليوم تفرز النفاق الفكري، والهجين الأخلاقي، والاغتراب الروحي. ولا شك أن هذا التهالك يقتل الفكر، ويعطّل إمكانيات التجديد.ثمّة أزمة صريحة في تصحيح المسارات، في بلورة مشروع تنموي أخلاقي يرسي قواعد التغيير من الداخل. فالعقول التي تسيّدت المشهد، وادّعت الرؤية، كانت هي ذاتها سبب الجمود والانهيار، وللأسف انساق كثيرون خلف تلك الأصوات، وأقاموا لأنفسهم “إمبراطوريات وهمية”، تحكمها الفردانية، وتغيب عنها المنهجية والمعرفة، ويغلفها الزيف والادعاء.بدلًا من أن تكون لدينا نظرة إصلاحية مضيئة، ترشدنا نحو خلق فني وإنساني ملتزم، وقعنا في شرك الرجعية والتكرار والقولبة. ومن هنا، تبرز مسؤوليتنا في مساءلة الذات أولًا، وفي تقويم السلوك الفردي كخطوة أولى للخروج من هذا التردي.إن كثيرًا من هزائمنا الأخلاقية تبدأ من الفرد ذاته، حين يُفرّط في صدقه، ويتنكر لقيم الجمال الإنساني في القول والشعور والتصرّف. لسنا بحاجة لمزيد من الشعارات أو الخطب، بل لحالة من “الادخار الفكري”، تُمكّننا من بناء موقف صلب، ومشروع إنساني نابع من جذورنا، لا من مقاهي التنظير أو أسواق الازدواجية.
وهنا يلحّ سؤال جوهري:
كيف نؤسس لرصانة أخلاقية؟ كيف نعيد الثقة إلى الفكر، والصدق إلى القول، والحزم إلى الفعل؟
الجواب لا يكون إلا بالفعل الصادق، لا بالثرثرة.
إن بناء بنية أخلاقية قوية في واقع هشّ، يحتاج إلى إرادة صلبة وصدق داخلي يبدأ من الذات لا من الآخر. تصحيح الخسارات العقلية يبدأ حين نكفّ عن تبرير أخطائنا، ونتخذ من سلوكنا الفردي مرشدًا للتغيير، ولو بخطوة واحدة.فلنتحرّر من الأنانية، ونرسم خطوطًا واضحة لتقويم الذات.لسنا بحاجة إلى تنظير فارغ، بل إلى دروس مستنبطة من واقعنا المُعاش، تُفهَم بالأثر لا بالكلام، وتُبنى بالفعل لا بالادّعاء.في زمن تتراكم فيه الخسارات العقلية كأنقاض فكرية واجتماعية، لم يعد التغيير خيارًا ترفيًا، بل ضرورة وجودية. إن بناء سلوك فردي أخلاقي ، صادق، واعٍ، هو الخطوة الأولى نحو ترميم مشروعنا الإنساني المتهالك. ليست الإمبراطوريات الوهمية سوى مرايا لعجزنا عن مواجهة الذات. والتغيير الحقيقي يبدأ من لحظة صمتٍ صادق أمام المرآة، ومساءلة جريئة:هل أنا شريك في هذه الخسارات؟ وهل أملك شجاعة تصحيحها؟ حين نجيب بصدق ، نكون قد بدأنا فعلًا في تأسيس أول لبنة لعقلٍ جديد، لا تحكمه الوهم ، بل تُنيره الأخلاق والمعرفة والفعل.