مقدمة
تأتي المجموعة القصصية «الجهات الأربع» للقاص” سلام القريني” -من اصدار دار توليب والتي تقع في 95صفحة من القطع المتوسط وتحتوي على 9. قصص قصيرة- كصرخة سردية في وجه الحروب والأنظمة القمعية، وكشهادة فنية على مأساة الإنسان العراقي وهو يواجه أقداره بين السلطة والموت والحروب والمنفى. القريني يقدم عبر نصوصه مزيجا من السخرية المرة والواقعية السوداء، محاولا أن يجعل من القصة القصيرة مرآة دقيقة للوجع الجمعي، من دون أن تفقد هذا الجنس الأدبي خصائصه الجوهرية القائمة على الاختزال والتكثيف والتنوير في لحظة واحدة.
* بين الأصالة والتجريب
أن التداخل بين الأجناس الأدبية أفقد القصة القصيرة شيئا من خصوصيتها وبنيتها المحكمة، لكنه في المقابل لا يتخلى عنها، بل يسعى إلى تطويرها دون المساس بمرجعياتها الفنية؛ من حدث واحد، وشخصيات محدودة، ونهاية واضحة ذات دلالة رمزية أو نفسية.
ونرى أن القصة القصيرة هي الفن الأكثر قدرة على التعبير عن الإنسان الجديد في ظل التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، وأنها قادرة على أن تكون صوت هذا العصر بامتياز، بما يحمله من أوجاع ووعي وتحولات.
*تحليل قصة (الجهات الأربع)
تحمل القصة التي أعطت عنوانها للمجموعة عمق التجربة السردية لدى القريني، وهي من أبرز النصوص التي تجسد مأساة الحرب والسلطة معا.
يقدم القاص أربع شخصيات، كل واحدة تمثل جهة من الجهات الأربع المحيطة ببيت السارد الذي اختار العزلة عن جيرانه، لتصبح الجهات الأربع بمثابة خريطة رمزية للعراق في زمن الحرب والاضطراب.
- الجهة الأولى:
بطلها رئيس عرفاء من صنف المشاة، أُحيل إلى التقاعد لأسباب نفسية. عاد ليخدم الزقاق في زمن الانتفاضة عام 1991، لكنه يعتقل ويعدم بتهمة المشاركة في اقتحام مبنى المحافظة. تمثل هذه الشخصية المواطن البسيط الذي سحقته السلطة رغم براءته.
- الجهة الثانية:
رجل أمن متقاعد فتح محلا بسيطا، لكنه في لحظة الفوضى انقلب لصّا ينهب المخازن، ثم يعود بعد دخول الجيش متفاخرا بخيانته لجيرانه، لينال مكافأة وترقية. هنا يرسم القاص صورة النفعي الوصولي الذي يعيش على الولاء للنظام والخيانة للمجتمع.
- الجهة الثالثة:
ضابط حزبي رفيع يطارد الشباب لعدم التحاقهم بالعسكرية ، ويستخدم الجنود لبناء داره بلا مقابل. تنتهي حياته بإصابته بالشلل، ثم إدراجه ضمن قوائم الإعدام بعد الانتفاضة. شخصية ترمز إلى الانتهازي الذي يلتهم كل شيء باسم الحزب، ثم تلتهمه النار نفسها.
- الجهة الرابعة:
نائب ضابط طباخ يعيش في بيت مكتظ بأشقائه وأبنائهم. تنتهي حكايته بمقتل أحد أبنائه في فوضى الانتفاضة. تمثل هذه الجهة الطبقة المسحوقة التي دفعت ثمن الحرب والفقر والعنف بلا مقابل.
من خلال هذه الجهات الأربع، يعيد القريني تشكيل الخراب العراقي في لوحة سردية واحدة، تتقاطع فيها مصائر الأفراد مع مأساة وطن بأكمله.
*القصص الأخرى في المجموعة
لم تخل المجموعة من قصص ذات طابع ساخر، أبرزها «الكرش وفائض القيمة» التي توظف الحوار بمهارة لتصوير العلاقة بين الفكر الماركسي والواقع المادي في حياة الإنسان البسيط. هنا تتحول المفاهيم الاقتصادية إلى رموز جسدية ساخرة، فالكرش يصبح دلالة على تراكم رأس المال وفائض القيمة في مفارقة تجمع بين الفلسفة والحياة اليومية.
وفي قصة «لن يعود» يتناول القاص مأساة اعتقال أحد الشيوعيين دون سبب، ثم اعتقال زوجته وتعذيبها، في سرد مكثف يعتمد على الصور القصصية الأربع التي تتماهى مع بنية قصة «الجهات الأربع»، لكنها تتركز على شخصية واحدة لتجسد قمع الفرد وانكسار الأمل.
أما بقية النصوص مثل: “كان يقرأ كلاما ليس من لغته”، “الصورة الملونة”، “قطعة أرض في”، ” تومس مالتوس”، “انتهاك”، “تعسف”، فهي تميل أكثر إلى السيرة الذاتية والذكريات، وتكشف عن حسّ تأملي عميق في علاقة الكاتب بالزمن والهوية والذاكرة.
خاتمة
مجموعة «الجهات الأربع» تمثل علامة بارزة في تجربة القاص سلام القريني، لأنها توظف القصة القصيرة كوسيلة مقاومة ضد النسيان والخراب، وتعيد الاعتبار للإنسان البسيط الذي طحنته الحروب والأنظمة.
في هذه النصوص، لا يبحث القريني عن البطولة، بل عن الوعي والاعتراف، عن تلك المساحة التي يقف فيها الإنسان وجها لوجه أمام ذاته، ليقول للعالم: ما زال في الجهات الأربع قلب ينبض رغم الركام.




