التحول الرقمي الاثراء الحقيقي لصناعة المستقبل د.براق طالب الموسوي

هيئة التحرير14 يوليو 2025آخر تحديث :
التحول الرقمي الاثراء الحقيقي لصناعة المستقبل د.براق طالب الموسوي

يشير مصطلح التحول الرقمي في التعليم إلى دمج التقنيات الرقمية والاتصالات في مختلف جوانب العملية التعليمية بما يُعزّز فعاليتها وجودتها. حيث تؤكد اليونسكو أن الابتكار الرقمي قادر على إثراء وتحويل التعليم وتسريع التقدم نحو تحقيق الهدف الرابع من التنمية المستدامة . وقد أثبتت جائحة كوفيد-19 ضرورة هذه الثورة؛ إذ كُشفت عن ضعف البنى التحتية الرقمية في دول كثيرة، مما حرم نحو ثلث الطلاب العالميين من التعليم لسنة كاملة. لذلك تحرص المؤسسات الدولية على توظيف الابتكار الرقمي لتوسيع فرص التعليم وتعزيز الشمولية، ورفع جودة التعلم ومردوديته  .

الأبعاد التقنية للتحول الرقمي

يشمل التحول الرقمي بعدًا تقنيًا أساسيًا يتمثل في البنى التحتية التكنولوجية والشبكات والأنظمة المستخدمة في التعليم. فالاتصال بالإنترنت وسرعته يشكّلان العمود الفقري لمدى نجاح التعلم الرقمي. فقد لاحظت اليونسكو أن حوالي 32% من سكان العالم (2.6 مليار شخص) لا يحصلون على الإنترنت، ولا يرتبط نحو 60% من المدارس الابتدائية عالميًا بشبكة الإنترنت . هذا الفارق التقني يبرز أهمية الاستثمار في توسيع شبكات الاتصالات وتوفير الأجهزة اللازمة كالكمبيوترات والأجهزة اللوحية والساعات الذكية التعليمية. كما تتضمن الجوانب التقنية أيضًا تطوير البرمجيات التعليمية والمنصات الرقمية (مثل نظم إدارة التعلم LMS)، وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز لتخصيص مسارات التعلم. فالمؤسسات التعليمية أصبحت تستخدم أدوات مثل الواقع الافتراضي لتعزيز الفهم النظري، ويُتوقع أن تزداد أهمية هذه التقنيات مع التوسع في التعلم عن بُعد.

الأبعاد التربوية للتحول الرقمي

يركز البعد التربوي على كيفية استخدام التكنولوجيا لتحسين العمليات التعليمية والمناهج والتفاعل بين المعلم والمتعلم. يُعزّز التعليم الرقمي التفاعل والمشاركة عبر أدوات التواصل الإلكتروني، ويتيح تخصيص المحتوى بناءً على قدرات الطالب ومستواه. على سبيل المثال، تدعم الأنظمة التعليمية الرقمية التعلم التكيفي، حيث تخضع المسائل لتقييم فوري وتقدم دروسًا بديلة بناءً على أداء الطالب. كما تُعتبر الموارد التعليمية المفتوحة (OER) جزءًا من هذا البُعد، إذ تتيح للمؤسسات تبادل الكتب والمناهج الرقمية مجانًا، مما يقلل الحاجة للمطبوعات التقليدية. وأكدت اليونسكو أن الاستجابة للمؤسسات التعليمية تتضمن تدريب المعلمين والطلاب على المهارات الرقمية، مثل الكفاءات الحاسوبية.

الأبعاد الاقتصادية للتحول الرقمي

يتعلق البعد الاقتصادي بالتمويل والاستثمار والعائد الاقتصادي للتعليم الرقمي. فمن جهة، يقدّر البنك الدولي أن الإنفاق العالمي على التعليم سيتجاوز 404 مليار دولار بحلول عام 2025 ، مما يعكس أهميته كمُجال اقتصادي رئيس. ويسهم التحول الرقمي في خفض التكاليف على المدى الطويل، فعلى سبيل المثال أدى اعتماد الموارد التعليمية المفتوحة إلى وفورات كبيرة؛ فقد وفرت كلية التقنية في ميلووكي نحو 5 ملايين دولار من تكاليف الكتب الجامعية خلال ثلاث سنوات . بيد أن التكاليف الأولية لإنشاء البُنى التحتية الرقمية (كإيصال الإنترنت وتوفير الأجهزة) مرتفعة، خاصة في الدول النامية. لذا تتعاون المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي واليونسكو لدعم هذه الاستثمارات الرقمية. وفي مؤتمر صحفي عام 2023، أعلن البنك الدولي ومؤسسة IDB استثمار أكثر من 500 مليون دولار لربط 12 ألف مدرسة في أمريكا اللاتينية وتحسين مهارات 350 ألف معلم رقمياً .

مزايا التحول الرقمي في التعليم

يُقدم التحول الرقمي في التعليم فوائد عدّة على الأصعدة التقنية والتربوية والاقتصادية، منها:

  • توسيع نطاق التعليم والوصول الشامل: تُمكّن التقنيات الرقمية من إيصال المحتوى التعليمي إلى الطلاب في المناطق النائية والريفية دون قيود جغرافية . فالحواسب المحمولة والهواتف الذكية تتيح التعلم في أي زمان ومكان، مما يدعم سياسات التعليم مدى الحياة.
  • تحسين التفاعل والمشاركة: تخلق الأدوات الرقمية بيئات تعلم تفاعلية (مثل الفصول الافتراضية والمنتديات التعليمية)، الأمر الذي يزيد مشاركة الطلاب وتحفيزهم. ووفقًا لأحد الأبحاث، يُؤدي الدمج الرقمي إلى تعزيز التفاعل الفردي مع التعليم، مما يدعم تحسين نتائج التعلم .
  • تحديث المناهج وتنمية المهارات: يدفع التحول الرقمي إلى تضمين معارف القرن الحادي والعشرين في المناهج، مثل التعلم الآلي والبرمجة والتفكير النقدي. فالتعامل مع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في التعليم يعزز مهارات التفكير النقدي والتقني لدى الطلاب، ويُعدّهم لسوق عمل متطور.
  • تقليل التكاليف على المدى الطويل: على الرغم من ارتفاع التكاليف الأولية، يساهم التحول الرقمي في خفض نفقات المنشآت التعليمية، حيث تقل الحاجة للمواد المطبوعة وتسهّل عمليات الإدارة والتقييم. على سبيل المثال، يُمكن للأنظمة الإلكترونية الأوتوماتيكية تصحيح الاختبارات وحساب الدرجات بسرعة، مما يوفر وقت المعلمين ويقلل الاعتماد على الموارد المادية .
  • زيادة شمولية التعليم: تخلق الموارد الرقمية فرصًا للتعليم للأطفال ذوي الإعاقة من خلال استخدام أدوات مساعدة (مثل النصوص الصوتية أو تصفية الألوان). كما تعزز التعلم الرقمي دمج الفئات المهمشة بأنظمة تعليمية مرنة وشاملة.

لقد أثبتت بعض التجارب العملية نجاح هذه المزايا. ففي أوروغواي مثلاً، أطلقت الحكومة مبادرة Ceibal بتوزيع حواسب محمولة على جميع الطلاب والمعلمين، مما حوّل بيئة التعلم إلى منصة رقمية شاملة وأثمر عن تحسن في المخرجات التعليمية وتقليل الفجوات المعرفية . وعلى سبيل المثال، في ناميبيا نجح مدرسون في مدرسة ريفية باستخدام جهاز حاسوب واحد وجهاز عرض لتحسين الدروس، إذ قال أحدهم: «الآن يمكنني إدماج محتوى رقمي ومقاطع فيديو أو صور تشرح الدروس أوضح من الكتب» .

تحديات التحول الرقمي في التعليم

رغم الفرص الكبيرة، تواجه عملية التحول الرقمي في التعليم تحديات حقيقية، أهمها:

  • الفجوة الرقمية: لا تزال نسبة كبيرة من الطلاب بلا وصول إلى الإنترنت أو الأجهزة. على الصعيد العالمي، أحصت اليونسكو أن نحو 826 مليون طالب لم يكن لديهم حاسوب منزلي، و706 مليون بلا إنترنت منزلي خلال جائحة كوفيد-19 . والأمر أشد حدة في البلدان الفقيرة؛ ففي إفريقيا جنوب الصحراء مثلاً لا يحظى 89% من الطلاب بحواسب و82% بلا إنترنت . كما يُقدر أن 56 مليون متعلم يعيشون في مناطق غير مخدومة بشبكات الهاتف المحمول . كل ذلك يهدد تحقيق تكافؤ الفرص التعليمية.
  • نقص التدريب الرقمي للمعلمين: تتطلب أدوات التعليم الرقمي مهارات تقنية ومهارات تدريس جديدة. ومع ذلك، فإن التدريب على هذه المهارات لا يزال محدودًا في كثير من الدول. فوفقًا لليونسكو، فإن 64% فقط من معلمي المرحلة الابتدائية في إفريقيا جنوب الصحراء تلقوا أدنى مستوى من التدريب، وغالبًا دون تضمين مهارات تكنولوجيا المعلومات . هذا العجز في تدريب المعلمين يضعف كفاءة استخدام التقنيات الجديدة في الصف.
  • التكلفة والبنية التحتية: تحتاج المدارس إلى استثمارات كبيرة لتأمين أجهزة الحاسوب والإنترنت عالي السرعة والبنية التحتية التقنية، وهو ما يمثل عبئًا ماليًا على الدول ذات الميزانيات المحدودة. بالإضافة إلى ذلك، تتطلب مثل هذه الأنظمة صيانة دورية وتحديثًا مستمرًا، فضلًا عن مواجهة مشاكل كهربائية وتقنية؛ فعلى سبيل المثال تعاني بعض مناطق العراق من انقطاع متكرر للتيار الكهربائي مما يعوق الاتصال بالإنترنت في أغلب المدارس .
  • تحقيق العدالة في الوصول: يحتاج التحول الرقمي إلى سياسات تراعي الفئات الضعيفة؛ فعدم وجود خطط شمولية قد يؤدي إلى زيادة الفوارق. لذلك تدعو اليونسكو إلى دعم بدائل للتعليم عن بعد (كالإذاعة التلفزيونية والإذاعية) لتخفيف آثار الفجوة التكنولوجية .

التجارب الدولية الناجحة

تسهم الأمثلة الناجحة حول العالم في توضيح إمكانية تحقيق فوائد التحول الرقمي. إلى جانب تجربة أوروغواي المذكورة، حقّقت استونيا وفنلندا وغيرها من الدول تطورًا مبكرًا في التعليم الرقمي؛ فقد وفّرت أستونيا منصة إلكترونية موحدة للمدارس والمدّرسين لتعزيز التفاعل بين الطالب والمعلم. كما عملت سنغافورة على تحديث المناهج لتشمل مهارات البرمجة والذكاء الاصطناعي تدريجيًا. وتقع هذه الابتكارات ضمن إطار استراتيجيات وطنية تعليمية تهدف إلى تحسين جودة التعليم وملاءمته لاحتياجات العصر. على الصعيد الدولي، تشارك اليونسكو والمنظمات العالمية بيانات وتوصيات؛ فبالإضافة إلى مبادراتها التي أشرنا إليها، أصدرت اليونسكو توصيات ونماذج كإطار كفاءات تكنولوجيا المعلومات للمعلمين، وإرشادات للذكاء الاصطناعي في التعليم، لدعم صانعي السياسات في تعظيم منافع التحول الرقمي وتقليل مخاطره .

التجربة المحلية في العراق

في السياق المحلي، شرعت مؤسسات عراقية وعربية في تبني إجراءات للتحول الرقمي بالرغم من التحديات. فعلى سبيل المثال، نظمت اليونسكو بالشراكة مع الحكومة العراقية وقطاع الاتصالات في مايو 2020 قمة افتراضية تحت عنوان «التعلّم لا يتوقف»، هدفت إلى دعم معاهد التدريب التكنولوجي واستمرارية التعليم الجامعي خلال جائحة كورونا  . وأكد ممثلو اليونسكو التزامهم بتعزيز التعلم عن بُعد في العراق، وتبادل الخبرات حول الحلول الممكنة لضمان جودة التعليم الرقمي واستمراريته . على الرغم من محدودية البنية التحتية، أعلنت الحكومة العراقية عن مبادرات لتحسين الاتصالات وبث الدروس التلفزيونية، وسعت وزارة الاتصالات إلى توسيع تغطية الإنترنت في المناطق الريفية  . وتُعد هذه الجهود بذورًا أولية نحو تقليص الفجوة الرقمية محليًا، ويظل التحدي قائمًا في تدريب المعلمين وضمان صيانة الأجهزة واستمرارية الكهرباء.

أثر التحول الرقمي على جودة التعليم وتكافؤ الفرص

يؤدي التحول الرقمي في نهاية المطاف إلى تعزيز جودة التعليم وجعله أكثر شمولًا. فالأساليب التعليمية الرقمية الشخصية (مثل المحتوى التكيفي والفصول الافتراضية) تحسن فهم الطالب وتلبيه احتياجاته الخاصة، مما ينعكس إيجابيًا على التحصيل العلمي. وقد لخصت دراسة حديثة أن التحول الرقمي يعزّز التفاعل وسهولة الوصول، وفي النهاية يخفض نفقات التعليم عبر الإنترنت ويعزز شموليته. من ناحية أخرى، يؤكد الخبراء أن تساوي فرص الوصول إلى هذه التقنيات يجب أن يكون هدفًا أساسيًا؛ إذ يلزم توجيه الدعم للفئات المهمشة (كالطلاب في المناطق الريفية والفتية ذوي الاحتياجات الخاصة) لضمان العدالة التعليمية  . وفي هذا السياق، يشير البنك الدولي إلى أن توفير تعليم ذو جودة ومتاحة للجميع في جميع مراحل الحياة يعد أمرًا حاسمًا للقضاء على الفقر والتفاوت الاجتماعي . لذلك فإن معالجة تحديات الفجوة الرقمية وتدريب المعلمين وضمان تمويل مستدام، كلها عوامل ضرورية لتحقيق التأثير الإيجابي الكامل للتحول الرقمي على مستوى التعليم.

وختام القول ان التحول الرقمي في التعليم يشكل ثورةً حقيقية تزحف عبر المؤسسات التعليمية عالمياً ومحلياً. فهو يقدم فرصًا واعدة لتحسين جودة التعليم وتوسيع فرص التعلم، غير أن تحقيق هذه المنافع يتطلب جهودًا متوازنة لمواجهة العقبات التقنية والتربوية والاقتصادية. من خلال تبنّي سياسات شاملة تجمع بين الاستثمار في البنى التحتية الرقمية، وتطوير المحتوى التعليمي وتدريب المعلمين، يمكن للدول أن تحوّل هذه الثورة إلى رافعة تنموية. تؤكد التجارب الدولية والمحلية على أهمية الدمج الذكي للتكنولوجيا مع اهتمام الإنسان في صميم العملية التعليمية، لضمان أن تعود ثمار التحول الرقمي على جميع الطلاب دون استثناء. في النهاية، فإن الاستثمار في التعليم الرقمي لن يثري فحسب المهارات التقنية للجيل الصاعد، بل سيُسهم في بناء مجتمعات أكثر مساواة واستدامة، تحقق أهداف التنمية المستدامة للتعليم.

عاجل !!