أياد الطائي… ضحية وطن | داود السلمان

هيئة التحرير4 أكتوبر 2025آخر تحديث :
أياد الطائي… ضحية وطن | داود السلمان

هكذا يرحل الفنان والمثقف والأديب في بلدٍ اعتاد أن ينظر إلى المبدعين على أنهم كماليات لا ضرورة لهم، وأن الإبداع ترف لا يستحق أن يُمنح العناية أو التقدير. في وطن تحكمه حكومة تغرق في وحل الفساد والمحاصصة والانشغال بالمنافع الشخصية، يغيب أياد الطائي، الفنان العراقي الكبير، في صمت موجع، لا لشيء سوى أنه لم يملك 3000 ألف دولار، هو ثمن عملية جراحية كانت لتعيد له فرصة الاستمرار في الحياة، والاستمرار في العطاء. مبلغ، بالنسبة لأصحاب المناصب والمليارات المنهوبة، لا يساوي شيئًا، لكنه بالنسبة لرجل أفنى عمره في خدمة الفن والثقافة، كان أكبر من أن يُوفر.

أياد الطائي لم يكن مجرد فنان، بل كان رمزًا من رموز المسرح والدراما العراقية، اسماً نُقش في ذاكرة أجيال تربت على صوته وأدائه وإخلاصه للفن. لم يكن يعيش برفاه، ولم يكن من أولئك الذين يساومون على مواقفهم أو يلهثون وراء السلطة. بل بقي مخلصًا لما آمن به، منح حياته للفن، للناس، للثقافة، ولصوت الضمير. وفي النهاية، رحل كما رحل كثيرون قبله، بصمت، بتجاهل، وبخذلان رسمي مريب، وكأن فقدان فنان لا يعني شيئًا في عرف من يتربعون على كراسي الحكم في العراق اليوم.

كيف يُعقل أن يكون فنان بمكانة أياد الطائي عاجزًا عن دفع كلفة علاج؟ وأين الدولة؟ أين وزارة الثقافة التي يُفترض أنها المعنية بهؤلاء؟ بل أين الحكومة برمتها من هذه الكارثة الأخلاقية؟ نحن لا نتحدث عن حالة فردية، بل عن منظومة كاملة انهارت فيها القيم، وغابت فيها المسؤولية. بلد يمتلك واحدًا من أغنى خزائن النفط في العالم، لكن لا يستطيع أن يؤمّن لمبدعيه الحد الأدنى من الرعاية الصحية! في بلد تُسرق فيه المليارات سنويًا، لا يجد فنان بحجم الطائي من يسأل عنه أو يمد له يد العون.

هذا هو المشهد الثقافي في العراق: لا مكان للمبدعين فيه، ولا تقدير لأصحاب العطاء الحقيقي. الفن والثقافة أصبحا مجرد شعارات جوفاء تُرفع في المناسبات، بينما يعيش الفنانون في الهامش، ويُدفنون غالبًا دون تكريم، دون حضور رسمي، وأحيانًا دون حتى أن يُذكروا في وسائل الإعلام الحكومية. الحكومة، بأذرعها المختلفة، تتعامل مع الفنان كما لو كان عبئًا، بينما هو في الحقيقة أحد أهم أعمدة المجتمع وأكثرهم تأثيرًا. لكن كيف لحكومة لا تؤمن إلا بالسلطة والمال أن ترى في الفن قيمة أو في الثقافة مشروعًا وطنيًا يستحق الدعم؟.

أياد الطائي لم يكن وحده، وقبله رحل الكثير من المبدعين بصمت مماثل، وسيأتي غيره إذا استمر الحال على ما هو عليه. لا توجد آلية واضحة لدعم الفنانين، لا توجد ضمانات صحية، ولا دعم مادي، ولا حتى اعتراف معنوي بقيمة ما قدموه. كل ما في الأمر خطابات إنشائية وبيانات رثاء تُكتب بعد فوات الأوان، في وقت لا يكون الفنان بحاجة فيه لكلمات، بل لرعاية، لوقفة حقيقية، لاعتراف بفضله، وليس لتأبينه.

المؤلم أكثر أن المجتمع نفسه بدأ يتعود على هذه النهايات المأساوية، وكأنها قدر لا فكاك منه، وكأن من اختار طريق الفن والثقافة عليه أن يدفع الثمن من حياته وصحته وكرامته. وهذا أخطر ما يمكن أن نصل إليه: أن يتحول موت الفنانين في ظل الإهمال إلى أمر عادي، لا يُثير الاستنكار، ولا يُحرّك ساكنًا.

أياد الطائي، في لحظاته الأخيرة، لم يكن يطلب شيئًا غير حقه الطبيعي في الحياة، في العلاج، في البقاء. لكن هذا الحق سُلب منه، ليس بفعل المرض، بل بفعل منظومة فاسدة جعلت من العجز قاعدة، ومن التجاهل سياسة، ومن الصمت وسيلة للهروب من المسؤولية. وهو ما يجب أن يتوقف.

رحيل أياد الطائي جرس إنذار يجب أن يُقرع في آذان الجميع. ليس فقط الفنانين والمثقفين، بل المجتمع كله. لأن سقوط الفن هو مقدمة لسقوط القيم، ولأن الإبداع ليس رفاهًا بل روح الأمة، ومرآتها التي تعكس حقيقتها. وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فلن يكون فقدان الطائي هو الأخير، بل سيكون واحدًا من سلسلة خسائر لن تنتهي إلا حين نعيد الاعتبار للثقافة والفن، ونُدرك أن المبدعين هم ثروة لا تقل أهمية عن النفط، بل هم أثمن وأبقى.

عاجل !!