في عمق المأساة، تبقى الفاشر رمزا للإنسانية المنسية. هي ليست مجرد بقعة على الخريطة، بل اختبارا أخلاقيا للعالم
على المجتمع الدولي والأمم المتحدة والآليات الحقوقية المختصة بتوفير حماية فاعلة للنساء والأطفال في مسارات النزوح والعبور وإرسال فرق تحقيق مستقلة لتقصي الحقائق
لم يصدر عن قوات الدعم السريع تعليق فوري لكن القائد محمد حمدان دقلو (حميدتي) أقر بحدوث ما سماه مجرد تجاوزات من قواته في الفاشر مدعيا تشكيل لجان تحقيق
دعت الشبكة الطبية إلى ممارسة ضغوط جادة على قادة “الدعم السريع” لوقف هذه الاعتداءات فورا واحترام القانون الدولي الإنساني
السودان / النهار
قالت شبكة أطباء السودان إن فرقها في مخيم العَـفّاض شرقي مدينة الدَبّة شمالي السودان وثقت 19 حالة اغتصاب تعرضت لها نازحات من الفاشر إلى مدينة الدبة على يد أفراد ينتمون لقوات الدعم السريع.
وأضافت في بيان أن “اثنتين من المتضررات في حالة حمل وتتلقيان حاليا رعاية صحية خاصة تحت إشراف فرق طبية محلية”.
وأعربت الشبكة عن إدانتها الشديدة لـ”عملية الاغتصاب الجماعي التي مارسها أفراد من الدعم السريع على النساء الفارات من جحيم الفاشر”، واعتبرت أنها “استهداف مباشر للنساء وتعد واضح على كل القوانين الدولية التي تجرم استخدام أجساد النساء كسلاح لقهرهن”.
وقالت الشبكة إن “استمرار مثل هذه الجرائم يعكس تطورا خطيرا في التعدي على الفئات الأكثر ضعفا” وحذرت من أن “صمت المجتمع الدولي على هذه الممارسات البشعة يشجع على تكرارها”.
وطالبت المجتمع الدولي والأمم المتحدة والآليات الحقوقية المختصة بتوفير حماية فاعلة للنساء والأطفال في مسارات النزوح والعبور، وإرسال فرق تحقيق مستقلة لتقصي الحقائق، وضمان وصول آمن للمساعدات الإنسانية والطواقم الطبية.
كما دعت الشبكة الطبية إلى ممارسة ضغوط جادة على قادة “الدعم السريع” لوقف هذه الاعتداءات فورا، واحترام القانون الدولي الإنساني.
ولم يصدر عن “قوات الدعم السريع” تعليق فوري على ما أوردته الشبكة الطبية المستقلة لكن قائد “قوات الدعم السريع” محمد حمدان دقلو (حميدتي) أقر في 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بحدوث ما سماه مجرد “تجاوزات” من قواته في الفاشر، مدعيا تشكيل لجان تحقيق.
وكانت شبكة أطباء السودان قالت في 16 نوفمبر/تشرين الثاني إنها وثقت 32 حالة اغتصاب لفتيات بمدينة الفاشر نزحن لمخيم طويلة للنازحين بشمال دارفور، منذ اجتياح “قوات الدعم السريع” للمنطقة في 26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وقد أفادت منظمات محلية ودولية أن قوات الدعم السريع ارتكبت مجازر في حق مدنيين عند اجتياحها للمنطقة وسط تحذيرات من تكريس تقسيم جغرافي للسودان.
وحسب وكالة الأناضول، تحتل هذه القوات كل مراكز ولايات دارفور الخمس غربا من أصل 18 ولاية بعموم البلاد، بينما يسيطر الجيش على أغلب مناطق الولايات الـ13 المتبقية بالجنوب والشمال والشرق والوسط، وبينها العاصمة الخرطوم.
ويشكل إقليم دارفور نحو خُمس مساحة السودان البالغة أكثر من مليون و800 ألف كيلو متر مربع، غير أن غالبية السودانيين البالغ عددهم 50 مليونا يسكنون في مناطق سيطرة الجيش.
وبعد أن نجح خليل ذو الـ34 عاما في الفرار بأعجوبة من مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور والوصول إلى بلدة الطويلة التي تبعد نحو 68 كيلومترا مشيا على الأقدام، حرص على سرد شهادته لمنظمة العفو الدولية وكشف الفظائع التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، والتي يؤكد أنها لن تمحى من ذاكرته.
يحكي خليل أنه اضطر للتظاهر بالموت حين فتحت عناصر المليشيات الرصاص على 20 رجلا كانوا معه بعد إجبارهم على النزول من السيارات، ما أسفر عن مقتل 17 شخصا منهم على الأقل، وقال: “قتلوا الناس كأنهم ذباب”.
لكن الانتهاكات التي يرتكبها عناصر الدعم السريع لا تقتصر على قتل المدنيين العزل فحسب، بل وصلت للخطف والاغتصاب، وفق تقرير لمنظمة العفو الدولية.
وأورد التقرير شهادات 28 ناجيا، أكدوا ارتكاب قوات الدعم السريع جرائم قتل واختطاف واغتصاب في الفاشر، ووصفت المنظمة ما ورد في هذه الشهادات بأنه جرائم حرب، مطالبة بمحاسبة مرتكبيها.
جرائم الدعم السريع
ولفتت شهادات أخرى إلى اختطاف رهائن مقابل فدية، حيث قال بدر -26 عاما- إن قوات الدعم اقتادته مع 5 آخرين إلى قرية قريبة من الفاشر، حين كانوا ينتقلون مع كبار في السن بشاحنة صغيرة خارج المدينة.
وأضاف: “أوقفوا الشاحنة وأعدموا بالرشاشات كل كبار السن الذين كانوا معنا، ثم طلبوا فدية مالية من عائلتي بقيمة 8 آلاف دولار، وأطلقوا النار على رأس شخص لم تتمكن عائلته من دفع الفدية أمام الكاميرا بينما كانت عائلته تراقب إعدامه”.
أما النساء في الفاشر، فكانوا أكثر الفئات معاناة في هذه الحرب، فتحدثت كلثوم -29 عاما- عن الاعتداء على النساء والفتيات في مخيم زمزم بعد فصلهن عن الرجال، قائلة: “تعرضت للاغتصاب عدة مرات، فصلوا النساء الأصغر سنا بعد اقتيادنا إلى المخيم واختاروا حوالي 11 امرأة، وكل من اختاروهن للتفتيش تعرضن لذات الأمر”.
وبدورها، تحدثت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أغنيس كالامارد عن ضرورة التحقيق في كل ما جرى وما يجري في الفاشر، وإيقاف الهجوم الوحشي على المدنيين وكافة الانتهاكات والتجاوزات.
ومنذ أسابيع، تشهد ولايات كردفان الثلاث (شمال وغرب وجنوب) اشتباكات عنيفة بين الجيش والدعم السريع، ضمن حرب اندلعت في أبريل/نيسان 2023، ما تسبب بمقتل عشرات الآلاف ونزوح نحو 13 مليون شخص.
الفاشر.. ذاكرة النار والندى
الفاشر ليست مدينة فقط، بل ذاكرة جماعية للسودانيين؛ ففي أزقتها اختلطت رائحة البن بالبارود، وصوت الأذان بأنين الجرحى. كانت الفاشر نافذة الغرب على الحلم، حيث يتعايش الفقراء والمبدعون والرُحل والتجار في نسيج إنساني نادر، يشبه السودان حين كان متماسكا، حيا، دافئا.
لكن اليوم، تبدو المدينة ككائن مرهق من البكاء، تجر أنفاسها الأخيرة وسط صمت دولي يثير الغضب.. لم يعد السؤال: من يطلق النار؟ بل: لماذا لا يسمع أحد صرخة الفاشر؟ لقد تحولت المدينة إلى رمز للخذلان العالمي، وإلى مرآة تعكس فشل الإنسانية في حفظ معاني الكرامة.
العالم الذي صمت.. والضمير الذي هرب
من على شاشات الأخبار، تمر مشاهد الفاشر كأنها لقطات من فيلم قديم، يتحدث المراسلون عن “اشتباكات” و”نزوح”، بينما يختبئ في الكلمات رعب لا يوصف.. طفل يبحث عن أمه بين الأنقاض، وشيخ يدفن أبناءه بيديه، وامرأة تحمل حقيبة صغيرة فيها مفاتيح بيت لن تعود إليه أبدا.
العالم يتحدث بلغة الإحصاءات، بينما نحن نحترق بلغة الدموع! في كل رقم معلن عن “الضحايا” هناك حياة كانت تحلم، وضحكة كانت تملأ بيتا، وذاكرة تُمحى ببطء. كم هو قاسٍ أن يتحول الإنسان إلى مجرد سطر في تقرير أممي بارد، بينما الحقيقة تنزف بين حروف لا تحمل دفء القلب!
ربما لا نملك السلاح، لكننا نملك الكلمة، والكلمة في زمن الخراب ليست ترفا، بل فعل مقاومة.. أن تكتب عن الفاشر يعني أن ترفض موت المعنى، أن تقول للعالم: نحن هنا، ما زلنا نحلم رغم الرماد
الفاشر.. رمز الإنسانية المنسية
في عمق المأساة، تبقى الفاشر رمزا للإنسانية المنسية. هي ليست مجرد بقعة على الخريطة، بل اختبارا أخلاقيا للعالم: هل ما زال في البشر متسع للتعاطف؟ هل ما زال في الضمير مساحة للغضب النبيل؟
إن ما يجري هناك ليس حربا فقط، بل انهيارا للمعنى ذاته؛ فحين يصبح الصمت الدولي أقوى من صراخ الضحايا، فإننا نعيش زمنا فقد بوصلته الأخلاقية. ربما لا تحتاج الفاشر إلى مساعدات بقدر ما تحتاج إلى أن يُسمع صوتها بصدق وعدل، لأن العدالة تبدأ بالاعتراف، والاعتراف بداية الشفاء.
الكتابة كشهادة حياة
ربما لا نملك السلاح، لكننا نملك الكلمة، والكلمة في زمن الخراب ليست ترفا، بل فعل مقاومة.. أن تكتب عن الفاشر يعني أن ترفض موت المعنى، أن تقول للعالم: نحن هنا، ما زلنا نحلم رغم الرماد.
الفاشر لا تحتاج فقط إلى من يبكيها، بل إلى من يرويها كما هي: بكرامتها المكسورة، بأمومتها الجريحة، وبأحلام أطفالها التي لم تكتمل. هي ليست مأساة سودانية فقط، بل مأساة العالم الذي سمح للنار أن تلتهم إنسانيته.
الفاشر ليست مجرد مدينة تحترق، بل مرآة نرى فيها وجوهنا الحقيقية: وجوهنا حين نغض الطرف عن المأساة، وحين نختار الصمت بدلا من الفعل، وحين نبرر لأنفسنا أن البعيد لا يعنينا
تأمل الختام: من بين الرماد تولد البلاد
قد يبدو السودان اليوم كجسد مثقوب بالرصاص، لكنه لم يمت بعد؛ ففي كل أم تحتضن طفلها رغم الجوع، وفي كل شاب يحلم بوطن يسع الجميع، هناك بذرة نهضة صامتة تنتظر الضوء.
الفاشر اليوم تئن، لكن أنينها هو أيضا نداء للحياة.. سيأتي يوم -ربما لا نعرف متى هو- تنهض فيه روحها من رمادها كما تنهض طيور الفجر من ليلها الطويل، والوطن الذي ظنناه حلما قصيرا سيعود وطنا حقيقيا من ضوء وكرامة وإنسانية.
الفاشر ليست مجرد مدينة تحترق، بل مرآة نرى فيها وجوهنا الحقيقية: وجوهنا حين نغض الطرف عن المأساة، وحين نختار الصمت بدلا من الفعل، وحين نبرر لأنفسنا أن البعيد لا يعنينا.
لكن الحقيقة أن الفاشر تسكن فينا جميعا.. في خوفنا، وفي وجعنا، وفي ما تبقى من ضميرنا. فليكن هذا المقال لا مجرد رثاء، بل صرخة ضمير تُعيد إلينا إنسانيتنا المفقودة، وتوقظ فينا الحلم القديم: أن يكون لنا وطن.. لا يُنسى.
وبحسب نيويورك تايمز كان المستشفى السعودي هو الملاذ الأخير للعديد من المدنيين الجائعين أو المصابين في المدينة. وقد أفادت تنسيقية لجان المقاومة بالفاشر بأن كل الجرحى والمصابين داخل المستشفى السعودي وعنابر «درجة أولى» و«الجامعة» و«الداخلية» قد تمت تصفيتهم جميعًا من قبل ميليشيا الدعم السريع بطرق بشعة، وقُتلوا وهم بين الحياة والموت.
يشير ما سبق إلى أن عدد القتلى في ارتفاع، ومن المرجح أن هذه المقاطع المروعة، التي تظهر مئات الجثث، لا تمثل سوى رأس جبل الجليد من إجمالي الحوادث التي وقعت بناء على الأدلة المتوفرة وتلك التي لا تزال قيد التحليل، ومن المرجح أيضا أن العدد النهائي للضحايا لن يعرف قريبا، وربما لن يرى النور إلا بعد شهور أو حتى سنوات ريثما تتبدل الأوضاع على الأرض بما يسمح لفرق العمل الحقوقية والإنسانية بالتحرك بحرية، فكما حدث في وقائع مشابهة داخل السودان نفسه، إبان حربي دارفور الأولى والثانية، وكذلك حرب الجنوب، لم تكشف الحقائق إلا متأخرة، حين خرجت الأرقام لتصدم الجميع بمئات الآلاف من القتلى.
من جانبه قدر مرصد حرب السودان أوليًّا عدد القتلى بالآلاف (3000 أو أكثر)، كما توصل باحثون في مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة ييل إلى استنتاجات مماثلة. وقد اتهم التقرير الصادر عن ذات المختبر قوات الدعم السريع بارتكاب أفعال قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، و”عملية تطهير عرقي ممنهجة ومقصودة”.
وقارن ناثانيال ريموند، المدير التنفيذي للمجموعة البحثية، مستوى العنف في المدينة بالساعات الأربع والعشرين الأولى من الإبادة الجماعية في رواندا، حيث قال في تصريح نقلته الغارديان بالتعاون مع وكالة الصحافة الفرنسية: “ما زلنا في بداية موجة العنف. لم أر قط مستوى من العنف ضد منطقة كالذي نشهده الآن. هذا لا يقارن إلا بجريمة قتل على الطريقة الرواندية في الساعات الأربع والعشرين الأولى”، وأضاف: “إن مستوى وسرعة وشمولية العنف في دارفور لا مثيل له، القتل شمل حتى المتطوعين”.
وهو ما أكدته لجان مقاومة الفاشر عبر تصريح منفصل حيث أفادت عن “استشهاد عدد كبير من عناصر مبادرات التكايا والمتطوعين بالمدينة، الذين كانوا يعملون في تقديم الدعم والمساعدات للمدنيين وسط المعارك الدائرة”.
وفقًا للأمم المتحدة فرّ أكثر من مليون شخص من الفاشر منذ بداية الحرب، ولا يزال حوالي 260 ألف مدني، نصفهم من الأطفال، عالقين دون أي مساعدة. وأفادت المنظمة الدولية للهجرة أن 36,000 شخص إضافي فروا من الفاشر خلال الأيام الثلاثة الأولى بعد اجتياحها سيرا على الأقدام نحو طويلة ومليط وكبكابية ووجهات أخرى. وقد وصل العديد منهم مصابين بجروح وجوعى ويعانون من الجفاف، حاملين معهم قصصا عن الرعب والعنف وفقدان أحبائهم.
كما أفادت منظمة أطباء بلا حدود، التي لديها فريق طبي في طويلة أن الناجين بينهم العديد من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، ونساء حوامل في حالة حرجة، وعشرات المصابين جراء إطلاق النار أو العنف.
أنهى تقرير جامعة ييل الأميركية تقريره عن مجازر الفاشر بهذه الجملة: “قد تستطيع دول العالم القول إنها لم تتمكن من منعه، لكنها لا تستطيع الادعاء بشكل معقول أنها لم تكن تعرف”، وهي جملة تستحق أن تخلد في ذاكرة البشرية لترويَ بطولة فاشر السلطان وعار من تركوها تسقط في آن واحد.
إن سقوط الفاشر ليس مجرد حدث عابر ولكنه نقطة تحول إستراتيجي في الحرب الدائرة منذ عامين ونصف، وإن تبعات السقوط تتعدى السياق المحلي وتطرح مزيدا من الأسئلة المعقدة حول مستقبل السودان.




