في زمن الحصار الأمريكي على العراق، وكان ذلك في تسعينيات القرن الماضي، تمنيتُ أن تكون لي إحدى مهن ثلاث، وليس من قبيل المصادفة أن تكون ثلاثتها مرتبطة بالطعام، فالجوع يومذاك كان مثل وباء فتك بالجميع. أعودُ إلى الأمنيات؛ تمنيتُ لو أن لي شواية دجاج، شواية دجاج لا أكثر، ولا حاجة لأن يكون عندي مطعم ، بل شواية دجاج لوحدها، فكلما كنت أمر بجوار إحداها، وبالذات تلك الشواية التي كانت عند كلية العلوم مقابل مكتبة الأعظمية العامة، تمنيتُ لو أستطيع أن أمد يدي لإحدى الدجاجات، حتى لو لسعتني حرارتها واكتوت بها يدي، كي آخذها للأبناء.وتمنيتُ أن يكون لي محلٌّ في منطقة الكسرة بشارع المغرب، محلٌّ كباقي المحلات الأخرى هناك، لبيع مشتقات الحليب ولوازم الفطور الصباحي: جبنٌ بأنواعه المتعددة وبمختلف درجات الملوحة، من الديلمة الفاهية، إلى الأكثر ملوحة فالأكثر ، وبالذات من تلك التي تتكاثر فيها الثقوب يميل لونها إلى الأصفر لكثرة ما فيها من دسم، وجوارها صينية قيمر عرب وقد صار لونها مشعاً مثل ليرة فضة، ودهن حر، وأشياء متلازمة أخرى كالدبس والعسل والبيض وسواها. فقد كانت وجبة الفطور اليومية تسبب لي أرقاً دائماً من المغرب وحتى صباح اليوم التالي، حيث يستعد الأبناء للمدرسة، كنتُ أريدُ لهم أن يذهبوا وقد شبعوا من أكل مفيد يساعدهم على الدراسة بدل الخبزة السمراء.أما أقصى أمانيي، فهو أن يكون لي محل قصابة لحوم ، فأستبدل البدلة والرباط بالدشداشة الواسعة وفي وسطها حزام عريض مشدود بقوة، وقد تدلت منه سكين حادّة لتقطيع اللحوم. كنت أقول مع نفسي: مادام عندي اللحم تستطيع الزوجة أن تطبخ لنا اليوم بطوله، بدل التحايل على استبدال كباب اللحم بكباب الشجر (الكوسا)، أو الاستعاضة عن اللحم بالباذنجان في عمل الكبة.لم تكن تلك الأماني لأني كنت عاطلاً عن العمل، فقد كنت يومها أستاذاً في جامعة بغداد، ورئيس قسم، ومستشاراً في بيت الحكمة، وكذلك مستشاراً عند وزير التعليم العالي، وكانت زوجتي هي الأخرى أستاذة جامعية، لكنه الحصار اللعين والرواتب الشحيحة التي لا تكاد تُذكر.في أحد الأيام قال الدكتور عبد السلام البغدادي لعميد كليتنا الدكتور شفيق، متهكماً: “يا دكتور، لا نريد مرتباً ، بل بيضة واحدة نظير كل محاضرة” وقد قال ذلك لأن مبلغ المحاضرة كان أقل من سعر البيضة. ما أزال إلى اليوم، كلما مررت أمام محل أجبان، أو شواية دجاج — مثلما اشتريت مساء اليوم من مطعم الهناء في الكرادة — أو مررت بجوار قصابة لحوم، أتذكر أمنياتي، فيرقُّ قلبي لمن يحلم الآن كما حلمت ذات يوم ، فأتمنى لو أن عندي كيساً سحرياً أستخرج منه للناس الأماني التي يودونها .