قصيدة ” شبر من الزمن” للشاعرة انعام الحمداني تناص مع قصص الأساطير السومرية والآشورية والبابلية
قراءة / د. عباس الجبوري
القصيدة :
شبر من الزمن ….
ليس لدي متسع من الوقت
فبين الشروق
والغروب
لا يتعدى الأمر شبرًا
وخمس أصابع
على مقاس جسدي المتهالك
كل الأحلام كاذبة
تضحك مني بسخرية
تقتل الفرح بسكين حاد
غير مبالية بوجع الفقد.
أندس بين الأيام، أتواري
كي لا أظهر هالات عيوني السوداء
كليل دامس في غياب القمر
أروم الحياة
ولكن العمر محطات متسارعة
ولم ألحق بقطار السفر
إلى جنائن معلقة
بين الروح والقلب
مكتظة أوقاتي بنزيف هائل
من دموع تأبى النزول،
رافضةً الخد لتستقبلها
فبقيت متحجرة في المآقي
تمر الشهور متكاسلة
لا تريد النهوض بحجة السنة الكبيسة
وفي دورانها خارج المدى
بأي مقاييس يقاس الشوق والحنين؟
آخر مرة استخدمت مقياس ريختر
فانفجر الكون داخلي
معلنًا ضجيجًا صاخبًا
وهزة روحية مع تدمير للأعصاب
وخراب في النفس
ها أنا ذا أقف على تل الخراب
أتأمل ما حدث سريعًا وأكذب الأمر
رغم الحقائق الكثيرة
أخيرًا، تقبلت الأمر
فلربما لم يبقَ إلا القليل لأستوعب ما حدث.
لا أعلم في أي محطة أنا الآن
فالخراب أتلف جميع الإشارات والعلامات.
إنعام الحمداني
المدخل الاستنباطي للنص:
تقمصت شخصية الشاعرة, باحثة عن المفاهيم والدلالات العقلية مكان حكمة وموعظة فلسفية واجتماعية وإنسانية وسياسية , هذا ما فهمته من مقاصد الشاعرة ،وقد تصورت الحالة النفسية والانفعالية التي مرّت بها الشاعرة وهي ما علقت بروح وأصالة المجتمع العراقي وهي تكتب القصيدة .كوني أملك هذا الشعور من تجارب سابقة وحالية مشابهة لتجارب الشاعرة ، وقد جرّبت الحالة النفسية والانفعالية التي مرّ بها الشاعرة وهي تكتب القصيدة, فأنا قد عايشت ماعايشته الشاعرة بنت بلدي من عدم الإستقرار ، واستفحال الفساد وما شابه , وسيادة الجهالة والخوف الذي عشش في العقول, والقسوة التي رانت على القلوب, والعزلة احياناً ، ونعيش زمناً مغادِراً… ونخاف من زمن آتٍ! حيث تقول في مقطع :
( كل الأحلام كاذبة .!
تضحك مني بسخرية
تقتل الفرح بسكين حاد
غير مبالية بوجع الفقد.
أندس بين الأيام، أتواري
كي لا أظهر هالات عيوني السوداء
كليل دامس في غياب القمر
أروم الحياة ..)
المدخل العقلاني :
مدخل الدلالات الفكرية المتباينة مع الأفكار الخارجية التي تحتل نظرة حضارية فكرية وجودية لفلاسفة لهم تجارب إنسانية وأدبية متوارثة, وتكون بوابة التناص لتحديد الدلالات والبحث
تناصت الشاعرة أيضاً مع قصص الأساطير السومرية والآشورية والبابلية
كما تناص العديد من الشعراء العراقيين المعاصرين , والذين تغنوا بآلهة الحضارات القديمة التي سكنت بلاد الرافدين :
( ولكن العمر محطات متسارعة
ولم ألحق بقطار السفر
إلى جنائن معلقة
بين الروح والقلب
مكتظة أوقاتي بنزيف هائل
من دموع تأبى النزول،
رافضةً الخد لتستقبلها
فبقيت متحجرة في المآقي )
البؤرة الاساسية الثابتة للنص :
من صفات النص الرصين المتكامل للشروط النصية البنائية والجمالية، احتوائه على ديناميكية الأفكار والإنسانية والوجودية وحتى في الشكل البصري، فتلمس تلك محطة البؤرة الثابتة للنص سيكولوجية الكاتبة الأدبية والفكرية النقية, ونظرتها نحو المجتمع ، تلك رسالة إنسانية يتميز بها الشعراء المحدثون ، حيث تشكل تلك النقطة مرتكزاً ثابتاً، و بؤرة لا يمكن تغيرها أو التلاعب فيها نقدياً، فهناك من يكتب للفقراء وهناك من يلاحق الظلم وهكذا، وعلى الناقد المتمكن أن يثبت تلك المحطة ويقف عندها، ومحاكاتها وإبرازها بشكل يستحق, وقد تمركزت الشاعرة في نصها:
( تمر الشهور متكاسلة
لا تريد النهوض بحجة السنة الكبيسة
وفي دورانها خارج المدى
بأي مقاييس يقاس الشوق والحنين؟
آخر مرة استخدمت مقياس ريختر
فانفجر الكون داخلي
معلنًا ضجيجًا صاخبًا
وهزة روحية مع تدمير للأعصاب
وخراب في النفس)
هذه رسالة إنسانية تشير إلى بشاعة الحياة غير المستقرة ، وتدعو إلى الترفع عن الخوض في غمارها, لأن أوارها سيحرق الجميع, والاعتكاف حتى ينفتح الظرف والحياة.
الغاية من توضيح الشكل أو التكوين البصري “البناء الفني والجمالي للقصيدة “لم يعد خافياً ممن يعمل في حقل الأدب، أن النقد هو عراب الأدب، وهو جملة القوانين والأنظمة التي يتنظم فيها الأديب والأدب على حد سواء ، والنقد الأدبي فن وعلم معقد، يستلزم بعض الأدوات التي يجب توفرها لدى الأدباء من كتاب وشعراء، ويعتبر نقد الشعر بالتحديد أكثر تعقيداً من نقد الأجناس الأدبية الأخرى حيث يتطلب منا بالإضافة إلى تحليل النص، والغوص في أعماقه المخبوءة، يتطلب أيضاً دراسة موسيقاه الداخلية والخارجية، يجب على الناقد أن يمدّ بساطه النقدي التحليلي الشامل على كل التفاصيل الشعرية، ليخرج لنا التحليل الأولي المستوفي لجميع الشروط النقدية، من خلال المحطات التالية :
التجنيس الأدبي للنص:
إن النص الماثل بين أيدينا, والمعنون ب / شبر من الزمن / هو قصيدة نثرية, دلنا عليها الشكل البصري للنص, واتساق جمله والألفاظ والسياقات الشعرية …
قصيدة إنسانية وجدانية تحمل الهمّ الإنساني الذاتي والوطني والمجتمعي ، وجودية رمزية بمسحة فلسفية مالت إلى الحكمة ، تتبع نظرية الفن للمجتمع . غلب عليها طابع الإيحائية من خلال استخدام الشاعرة المفردات حسية :
متسع من الوقت / الشروق والغروب/ شبرا وخمس اصابع/ خمس اصابع/ مقاس جسدي / مقياس رايختر/
واكثرت من الكلمات التداولية تداعب الحالة النفسية :
الوقت / الشروق/ الغروب/ الايام / الليل / القمر/ العمر / الشهور .
و ما يثبته القلم افصحت عن هواجسها على صفحات الورق ما يحدد طبيعة الإنتصار أو الإنتكاسة لمجتمع ما من المجتمعات الإنسانية من خلال افراده، معبرة عنه :
بسخرية تقتل الفرح بسكين حاد/ وجع الفقد / هالات عيوني السوداء /اروم الحياة / دموع تأبى النزول/ضجيجاً صاخباً/ تدمير الأعصاب .
كما كانت كلماتها المتعطشة للحرية :
الفرح / الروح / القلب/ الشوق / الحنين .
كما كررت الشاعرة كلمة (( الخراب )) كاشفة الحالة النفسية وما تريد من مكاشفة روحية للواقع ..
البيئة الشعرية في النص:
الشاعرة بالنتيجة هي ابنة بيئتها, تعيش فيها, وتعيش في ذهنها وعواطفها, فتثير ملكتها الشعرية , فتنطلق معبّرةً, مطلقةً العنان لدواخلها, من الماضي والحاضر كاشفةً حالتها النفسية, وما يعتريها من انفعالات في بيشة تدل على توالد إبداعات وإرهاصات الشاعرة وهي التي تساهم في إخراج عملها الإبداعي ممزوجاً بأحوالها الحياتية وتفاصيلها النفسية وأفكارها المتقدة ، مستجلية المتغيرات النفسية في معاناة الواقع ، ولا ننسى بيئة بلد الشاعرة ، العراق البلد العربي الأصيل, موطن الرافدين والحضارات الثلاث السومرية والبابلية والآشورية وازدهار الوركاء واشنونا حيث سادت قبل سبعة آلاف سنة, لكن .. الشاعرة تتحدّث عن موطنها في الوقت الراهن,في موضعين، وقت عصفت فيها زوابع بغيضة, وهي الشاعرة التي نأت بنفسها وتتدفق تيارات فكرها وعاطفتها, لترسم لنا لوحة القصيدة
هذه فلا غرابة أن يكون فيها المخيال ضارباً في العمق, وهنا – وعلى مقياس العمق – بلغ النص درجات عليا ..
لإن الخيال الذي أخذتنا إليه الشاعرة انعام الحمداني، حلّقت بنا إليه على جناح القصيدة, بلغ حدود الإنزياح …
هنا تتجلى أهمية الخيال, حينما نرى كيف تبدع الشاعرة في تصوير مشاهد مألوفة في حياتنا تعبيريا ورمزياً, تبث فيها الحياة والحركة, وتتخيلها على نحو فيه إثارة وطرافة …لننظر إلى هذه الصورة الناطقة بكل لغات الوجدان :
مكتظة أوقاتي بنزيف هائل
من دموع تأبى النزول،
رافضةً الخد لتستقبلها
فبقيت متحجرة في المآقي
تمر الشهور متكاسلة
لا تريد النهوض بحجة السنة الكبيسة
وفي دورانها خارج المدى
نلمس إلى أي درجة حرفت بها الشاعرة مؤشرالصور الشعرية نحو الخيال, في مشهد اعتدناه بالحياة
بحرفية عالية, مزجت بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي, مما أكسب القصيدة حيوية .
نلاحظ كيف استخدمت الشاعرة فعلاً إخبارياً مباشراً
( ولكن العمر محطات متسارعة ولم ألحق بقطار السفر إلى جنائن معلقة ) بشكل محسوس , أتبعتها بجملة إنشائية ( فلربما لم يبقَ إلا القليل لأستوعب ما حدث. لا أعلم في أي محطة أنا ) من مصدر غير محسوس, فجاء التركيب حياً, يضج بالحركة, والشاعرية …
لتبين عن زج عواطفها وأحاسيسها وآرائها, ونظرتها الخاصة إلى عالمنا وكأنها تقدَم سيرة ذاتية، تحمل اصرار الشاعرة لعشق الحياة، في قلبها كل العواطف والأحلام ..
موسيقى النص :
حرصت الاستاذة انعام الحمداني في أثناء تأليف النص على موسيقى الألفاظ ، والموسيقى الداخلية لهذه القصيدة النثرية المنسجمة مع مضمونه :
بأي مقاييس يقاس الشوق والحنين؟
آخر مرة استخدمت مقياس ريختر
فانفجر الكون داخلي ..
المدخل اللساني:
وهنا نبحث في الدال والمدلول التركيبي البنيوي وتوابعة الاشتقاقية ، أي دراسة اللغة المكتوبة ، الألفاظ و دلالاتها، و طريقة تلقي المتلقي لها وتجاوبه معها، بعد أن خضعت لميكانيكية التميز في علم الكتابة والإملاء ، تنتقل بعدها حسب التدرج المنطقي الذرائعي إلى حيز التميز في القراءة والتفسير الصوري للنص المكتوب .
ومن هذا المدخل نجد ان الشاعرة اختارت الألفاظ الفصيحة والمهذبة من قاموسها اللفظي الغزير, و نضدتها في قصيدتها من غير إسفاف بعيداً عن الابتذال، حتى عندما بلغت في القصيدة مبلغ الغضب، لم تستعمل ألفاظاً دونية بل مباشرة ، بقيت محافظةً على اللباقة الأدبية ، واستعانت بالعديد من الألفاظ التي تعكس سعة اطلاعها، على مرجعيات ادبية ووظفتها في خدمة المعاني الشعرية للقصيدة النثرية بشكل استثنائي .
الصور الشعرية :
الصور الشعرية في هذه القصيدة طاغية في كل مقاطعها، تنيرها الإضاءات الجميلة، وتتغشاها العاطفة، والمنطق الساحر ، يتسيّدها الخيال بدرجة انزياح عالية، تسيطر تجربة الشاعرة الشعورية وتبرز جلية واضحة في السطور .
التكوين الجمالي والبلاغي :
هذا التكوين يتشكّل من خلال الجرس الموسيقي، واستخدام المحسنات البديعية في الشعر عامة ( طباق – جناس- سجع – مقابلة – تورية- حسن تقسيم – ترادف – اقتباس ) لتقوية المعنى، ونظمت إيقاع الجرس الموسيقي ،
ثم أنتقلت إلى علم البيان ( التشبيه- الاستعارة – الكناية – المجاز )
لقد ألبست الشاعرة الغير محسوس لباس المحسوس ،
بهذا إستطاعت أنعام الحمداني ان تَرسم خِلجاناً على وجه قمرها الشعري : في استعارة مكنية ، جعلتها بطاقة عبور يرسم الواقع ” المشحوف “و “القصب “. : استعارة مكنية بإشارة إلى جنوب العراق ” الهور”
تحياتي إلى الشاعرة المبدعة انعام الحمداني التي تألقت في هذا النص الذي دخل قلب المتلقي والنلقد معاً، أتمنى أن أكون قد وفقت بتسليط الضوء على بؤر الإبداع الكثيرة التي سكنت هذه القصيدة.
النتيجة : غلبة دلالات عديدة ما يشير إلى أن الشاعرة في هذا النص مستقرة في حقل إبداعي يميل إلى عدم الرضا من خلال دلالاته…
وبذلك نحكم أن الشاعرة وجدانية وجودية تبحث في الواقع في ماضيها البعيد والقريب و الحالي ، تميل إلى الحكمة والفلسفة، في قصيدة وجدانية يغشيها الهم الإنساني والحسرة والحيرة أحياناً، ( ها أنا ذا أقف على تل الخراب) ورسالة إنسانية تدعو إلى رفعة الوطن بعين شاعرة تبغي الحياة السعيدة للمجتمع .
النهاية:
أنهي لوحتي النقدية ، وأنا على يقين من أنني كنت أستطيع أن أخوض فيها أكثر .. فالقصيدة غنية بالكثير من المعاني والصور، بقي أن نولي القشرة الجمالية للنص الأدبي العربي ما تستحقه من اهتمام، وعندما ننتهي من التمعن في جمالها وأناقتها، وانتقلت الى المضمون لسبر أغواره وكشف مخبوء آته كما حرصنا على رفع هذه القشرة بحذر شديد، وكأننا نرفع ورقة غلاف زينة عن هدية عيد الميلاد ، لأننا نحب كل شيء جميل، ونحرص على الاحتفاظ به وننفد إلى المضمون بالتفكيك والتحليل وقد نتعمق ، ونكتفي بذلك، ونترك باقي الصيد للماورائيات، فنحن لا نروم التفكيك المستمر الذي يشظّي النص العراقي الجميل، ولا خلق فيه الشروخ والتناقضات، وحاشى للنص العراقي العربي أن يصبح متناقضاً في ذاته ..
ومن هنا جاءت القصيدة الوجودية تحفظ النص بشكله ومضمونه، وننأى به بعيدأ عن الشروخ والتناقض…