قصيدة السيرة الذاتية في شعر مسلم الطعان أ.د مصطفى لطيف عارف

هيئة التحرير11 يونيو 2025آخر تحديث :
قصيدة السيرة الذاتية في شعر مسلم الطعان أ.د مصطفى لطيف عارف

  صار من المألوف عند الشاعر (مسلم الطعان)  أن يكتب نصوص سيرته الذاتية التي تصور أحاسيس شخصيته, وانفعالاته في أثناء عرضه لتاريخها الماضي ,والتبس الأمر أكثر عندما راح الشعراء يدونون مذكراتهم ,وسيرهم الذاتية المتخيلة شعرا في بناء فني تتداخل فيه الأجناس الأدبية وهذا ما ذكره احمد ناهم  ,وشكل حضور فن السيرة في المدونة الإبداعية الحديثة مسارا جديدا لمعاينة الأجناس الأدبية وفنون الكلام الإبداعي , ونتيجة لصلتها الحميمة بــ(أنا) الشاعر في تجربة الحياة والكتابة وهمومها وشؤونها وشجونها وشواغلها, فقد حظي هذا الفن باهتمام متميز من طرف مجتمع القراءة , وصار الفن الأدبي الأكثر مقروئية تقريبا ,وقد أسهم هذا أسهاما إجرائيا حقيقيا في تطور الأنواع السيرية وانفتاحها الحر على ما هو متاح من الفنون المجاورة ,تغذيها وتتغذى منها في آن معا ,وقادت في الوقت نفسه إلى انفتاح الرؤية النقدية الحديثة نحو التركيز على هذا التطور, وفحص مقوماته داخل النصوص, على النحو الذي أنتج مصطلحا جديدا مهجنا هو مصطلح القصيدة السير ذاتية عند شكري الهايس ,وفي ابسط مفهوم لقصيدة السيرة الذاتية يرى حاتم الصكر أنها تقديم رواية الحياة منظومة شعرا بناء على تشغيل الذاكرة بأقصى طاقتها,وهذا المفهوم لا يعطي لهذا النوع الأدبي سوى أن القصيدة السير ذاتية تكتب شعرا كما أنها لا تشير على نحو صريح إلى انتمائها زمنيا إلى الماضي بوصفها قصة استعادية , والإشارة إلى الذاكرة في التعريف لا يعني بالضرورة الماضي لان الذاكرة تعني انسياب حركة الزمن الماضي إلى الحاضر الذي سيتوغل مع المستقبل عبر جدلية التطور وديناميكية التفاعل على صعيد الحياة والأدب,والشاعر (مسلم الطعان)  العراقي المظلوم الذي لم تسلط عليه الأضواء الإعلامية لأنه بسيط , ومتواضع , فهو يسرد لنا معاناته  بفقد والده بريشته الفنية , ويتحدث لنا عن أمنيات أبيه البسيطة  فنراه يقول :-

أبي

يا ابن عم أمي

يا عنفوان الفحولة

رحلت بعيدا ونحن هنا

نواصل الخطوات

وابنك يا أبي يناجيك شعرا

ابنك الذي جهزت

له ملابس الخاكي 

أردت له أن يكون عريفا

يجلب المعاش لك في كل شهر

ولأن التخلص من الحاضر لحظة كتابة السيرة ليس إلا وهما والكاتب ألسيري مهما فعل لا يستطيع التخلص من الحاضر الذي يكتب فيه ليلتحم بالماضي الذي يرويه,وكأن فن السيرة لا يقوم إلا على هذه الاستعادة الزمنية من منطلق الحاضر وليس من سبيل لتلقيها كفن مستقل إلا عبر فهمها كاستعادة بوساطة الذاكرة التي تعني بداهة أن فعل التذكر يتم من الحاضر ذهابا إلى الماضي بطريقة الانتقاء والاختيار والشاعر الطعان  مزج بين الماضي ,والحاضر عبر الزمن الخيالي الطليق ليتحدث عن فقده لوالده وانه بقى كما عاهد والده على الالتزام بالمبادئ والقيم العريقة  عبر تسلسل الزمن العمري له ,فنراه يقول :

ابنك يا أبي لم ينطفئ

كما أرادوا له

لم يزل يغني للمضيف

مثل فانوسك الفضي

والشعر في أصغريه بحر المرايا

كما أن هذا المفهوم يغفل أيضا مسالة مهمة لابد من توافرها في أي نص سير ذاتي هو التطابق  المفترض بين أنا المؤلف , وأنا السارد ,وأنا الشخصية المركزية ,التي أكد عليها لوجون في تعريفه للسيرة الذاتية بأنها قصة استعادية نثرية يروي فيها شخص حقيقي قصة وجوده الخاص, شخصيته بالخصوص, ولهذا تصبح التجربة المرآوية لفن السيرة الذاتية تجربة تنطلق منها الذات لتجوب العالم ,والآخرين ,ولكن لتراهم من خلال الأنا,فهناك ارتداد باستمرار إلى الأنا ,ووعي بأن الآخر الذي نبحث عنه ليس سوى الأنا الذي يمارس التجربة ,وبذلك يصبح الآخر أشبه بصورة مرآوية للأنا تتحقق من خلال الكتابة,ومن هنا تستطيع مرآة السيرة أن تقدم صورة حقيقية للذات لا تقتصر على مظهرها الخارجي فحسب ,وإنما تتعدى ذلك لتصل إلى داخلية النفس الإنسانية بما يغمرها من مشاعر وأحاسيس , وما يحيط بها من حالات ,فتعكس خيبة الأمل , والإحباط ,والضعف ,مثلما تعكس الفرح ,والأمل والثقة, ويرتبط مفهوم السيرة الذاتية عند الطعان  عموما بمفهوم تأمل الذات فقد تناول الشاعر جوانب كبيرة من سيرته الذاتية في دواوينه الشعرية ,وقد تجسدت السيرة الذاتية عنده من خلال النص الشعري الذي أصيب به بالضعف ,والإحباط ,فنراه يقول :-

ابنك يا أبي لم يخن قاموسك الريفي

والليالي – المفردات

لم يبع في سوق النخاسة

تبر الابوذيات

هيل الفانجين أو فضة الحلم

و تشغل الذاكرة عند الشاعر(مسلم الطعان) حيزا بالغ الأهمية في فعاليات الإنسان الجوهرية ,والأساسية ,وتكاد تهيمن هيمنة شبه كلية على معظم نشاطاته الحيوية على الأصعدة اللسانية ,والشعورية كافة إذ أن الإنسان ينفق الجزء الأعظم من وقته متمثلا فضاء الذاكرة ومستوحيا طاقاتها الوجدانية وماكثا في منزلها,لأن الذاكرة على وفق هذا المنظور تعاين بوصفها,مستودعا أو مخزنا يختزن فيه الفرد جميع الصور الاجتماعية والعرفانية والعقلية التي تمر أمام مخيلته خلال حياته في هذا العالم المتطور سريعا نحو النمو والارتقاء, لكنها لا تتوقف بأية حال من الأحوال عند حدود الحفظ والأرشفة والخزن ,بل تتجاوز ذلك إلى تفجير إمكانات موجوداتها,عبر فتح آلية الحفظ على حركة الحواس,وتفعيل العلاقات المتجاورة ,والمتناوبة,بين غياب الصورة في المحسوس وتحريض آليات الذاكرة على استعادة الشعور بها ذهنيا ,اعتمد الشاعر  الطعان على القوة التي تقوم بحفظ صور المحسوسات والمعاني الجزئية المدركة منها,وتستعيدها في الشعور عند غياب المحسوسات ,والذاكرة وظيفة سيكولوجية مركبة تشترك في القيام بها جميع الحواس الباطنة تقريبا وهذا ما يراه الدكتور محمد عثمان,وتأخذ كل حاسة نصيبها من الفعل والتأثير والتأليف بحسب حاجة الشعور المستدعى وصلته التشكيلية بجوهر هذه الحاسة ,تنفتح حركة الذاكرة بعد ذلك على نهر الزمن لتحرر صفتها الماضوية من فكرة الغياب مؤكدة حضورها الباهر في المستقبل,ولتبعث في مخزوناتها ألق الحياة القابل للتجديد والاستمرار فشاعرنا الطعان يسرد لنا الزمن الماضي عبر حركة شعرية متميزة من خلال حديثه عن جده فنراه يقول :-

يطلقها قلب جدي في

 مساءاتنا الناحبة

يا كسر أحزاني

أراك أم تراني

طفلا تضاحكه المسافات

ليكون جدي أو أنا

بستان شعر ذبيح الرؤى !

 

    فالذاكرة عند الشاعر الطعان  كائن انتقالي لذا يجب تعريفها بالصورة بناء على وجهيها فهي من جهة تقدم لنا لوحة عن بقايا الماضي وآثاره,كما تقدم لنا من جهة أخرى وفي هذه اللوحة نفسها معالم المستقبل ,نظرا لن الذاكرة تبتدع بحد ذاتها مستقبلها الخاص وهذا مايراه اريك فروم,  وربما كانت الذاكرة الشعرية هي الذاكرة الإبداعية الأعمق والأكثر فاعلية في إيقاد شرارة الإبداع في صلب هذا المخزون الثر,ولا شك في أن حركة الحداثة الشعرية بالذات ابتكرت مساحات جديدة لعمل الذاكرة وتفعيل آلياتها وتثمير طاقاتها الخلاقة ,في الطريق إلى انجاز قصيدة جديدة تتنكب أدوات الحداثة وتستشرف آفاقها الحرة ,وهو ما يراه الدكتور محمد صابر عبيد 0

 

 

عاجل !!