الترابط والموضوعية في مجموعة (تاتو) للقاصة تماضر كريم / قراءة / داود السلمان

هيئة التحرير24 مايو 2025آخر تحديث :
الترابط والموضوعية في مجموعة (تاتو) للقاصة تماضر كريم / قراءة / داود السلمان

(1)

   شهور عدة وأنا اتحين الفرص، وأسرق الأوقات، وأجري خلف اللحظة السانحة، وبلا جدوى، بسبب زحمة الحياة، وكذلك كثرة الكتب التي تأتيني كإهداءات، وأخرى أبتاعها من “المتنبي”؛ وكوني لا أعطي الأولوية الزمنية لقراءة الكتب، بل أقرأ أول كتاب يقع عليه نظري، وإن هذه قد تكون عادة غير محببة، ولا صحيحة في آداب القراءة والاطلاع، لكن هذا ما يجري ليّ. وفعلا جاءت الفرصة، وحان الوقت، واقتربت اللحظة، لتكون “تاتو” – وهي مجموعة قصصية للقاصة والكاتبة تماضر كريم –  أمام ناظري وبين يديّ، فتلقفتها كما يتلقف حارس المرمى كرة القدم، وهو يشعر بالزهو، لكونه قد صدها ولم يجعلها تفلت منه لتُسجل هدفا ضد فريقه.

(2)

   الذي فاجئني في قصص هذه المجموعة هو: لغتها الرصينة، وسردها الممتع، وانسيابيتها بلا كلل ولا ملل، والمفاجئة التي فوجئت بها هي كوني أول مرة اقرأ لهذه الكاتبة، إذ لم تكن من قبل وقعت بين يديّ قصص أخرى لها، وإن كان ثمة تقصيرا في الأمر، فالسبب يقع على عاتقي، كون لم أكن دقيقا ولا متابعا جيدا لما ينشر من روايات وقصص، ومجاميع شعرية أخرى، وايضا كون الساحة الثقافية، في الآونة الأخيرة، كانت حُبلى بإصدارات مكثفة وكثيرة، والأمر مفرح ومحزن في آن معًا…

(3)

   هناك ثمة خاصية اتسمت في هذه المجموعة القصصية، هي السردية الجزيلة المكثفة، واختيار الانتقالات، بدراية وعناية فائقتين، وترابط الجُمل وفق سير الحدث داخل القصة، والمزج بين المعنى وبين الحفاظ على سلاسة الجُمل، بحيث يظلَّ القارئ مشدودا إلى تلقف الكلمات وهي تبان في نسقها بتلك الدّقة. هذا فضلا عن اللغة التي تمتلكها القاصة، وكيف تعالج بها الحوارات لأبطال قصصها؟، وهي قليلا ما تستعمل تلك الحوارات، لأنها تفضلّ السرد وتوضيح الحدث بتلك الخاصية.

(4)

   “تاتو” التي جعلت القاصة منها عنوان المجموعة، هي قصة في التسلسل الثالث الأخير وفق المحتويات، ولا أدري لماذا فضلّت الكاتب هذه القصة، كعنوان للمجموعة وليس غيرها من القصص الأخرى؟. والجواب، باعتقادي، أن الأمر كان مدروسا ومحسوما سلفا، فالاختيار كان موفقا، ودقيقا في الوقت ذاته. القصة اجتماعية ولها تاريخ ضارب في القدم، وتعالج قضية ذوات البشرة الملونة في مجتمعنا العراقي، وكيف ينظر المجتمع بنظرة دونية إلى هذه الفئة من الناس، وهُم ما يسمون بـ “العبيد”، وتاريخ هذه الفئة المعينة من الناس لها تاريخ قديم، أي قبل الإسلام بفترة طويلة جدا، وحتى من جاء الاسلام لم يستطع أن يقضي على العبيد، بل أبقى الأمر على ما هو عليه، فكان الصحابة ومن جاء من بعدهم، من الخلفاء والأمراء والولاة، يمتلكون مئات وربما آلاف من العبيد، حتى أنهم قاموا بثورة عارمة، بهدف تحريرهم من ربق العبودية، إلّا أنهم خسروا المعركة، وأعطوا آلاف القتلى والجرحى المعاقين، وتسمى هذه المعركة “معركة الزنوج”. وظلَّ  هذا الأمر إلى ما هو عليه، إلّا أن حررتهم أمريكا. القاصة وقد عالجت المضوع بحنكة ودراية، وبالتزام أخلاقي وانساني وفني، وأوضحت في قصتها هذه جوانب عديدة، وتساؤلات وضعتها القاصة على لسان البطلة، حين تسأل والدها عن سبب عشقها لأمها السوداء، ولماذا أنجبت له ثلاث فتيات شقراوات و واحدة ذات بشرة سمراء داكنة؛ وهي تساؤلات فلسفية.

   الحقيقة، أن طرح في غاية الموضوعية، والانسانية، وربما فيه تحكيم للتاريخ،  وللذين جنوا على تلك الفئة التي ليس لها دخل في اختيار لون بشرتها، وانما ذلك يعود للبيئة التي وُلدت فيها وترعرعت، لأنّ الانسان هو ابن بيئته، وينصاع لها.

(5)

   إن معظم القصص في هذه المجموعة، عالجت فيها القاصة تماضر كريم، موضوعات آنية معاصرة، هي من صميم ما نعيشه اليوم، من ازدواجية وفئوية، وقضايا أخرى أكل عليها الدهر وشرب، لكن كثيرا منها مازال يعيش في نفسية مجتمعاتنا للأسف؛ وهذا بحد ذاته يعود إلى قصر الوازع الاخلاقي والثقافي والمعرفي، وعلى الغريزة النفسية الكامنة في شخصية الفرد، وعدم ادراكه للأمور وعاقبتها من التي أدرت بالمجتمعات إلى النكوص، وترتب عليها جهل مطبق اوصلها إلى الحضيض. القاصة ابدعت في تشخيص مثل كذا حالات، و وضعت يدها على مكامن الألم، لاسيما في قصة “لوحة دامية” ص: 94، وفيها رموز واحالات إلى قضايا ومواقف منها يدمي القلب، وآخر يحز بالنفس، وثالث يعطي أكثر من تساؤل وآخر. كذلك في قصة “الرصاص” ص: 90، ما يقارب من هذا المعنى. وقصة “المجنون” الذي كانت يتابع الفتاة البطلة، وكيف أنه كان يعاكسها ويقذفها بكلمات نابية و خادشة للحياء، والقصة بحد ذاتها ادانة لمجتمعاتنا، واسمته “مجنون” لأنه مريض نفسي وفكري، ومعاق من الداخل بنظرته القاصرة، وتخلفه عن المجتمعات المتطورة. ومنه في قصة “لعنة” ص: 64، التي عالجت الكاتبة قضية التشوهات الخلقية، ونظرة بعض البشر القاصر عن ادراك ذلك، وكيف للبعض حين ينتقص من الآخرين، بكبر أنفه أو بصغره، أو غير ذلك. وهي قضية قد يفهم معناها البعض، وآخر لا يقدر على فهمها، وقد عالجتها القاصة بصورة فنية وفيها رمز لأمور أخرى، بما لا يدركها القارئ للوهلة الأولى. وفي “رُباك” ص: 81 لا تقل شأنا في موضوعها عن هذه القصص وطرحها، وهي تتحدث عن النشيد الوطني، إن بطلة القصة تلاعبت في مفردات النشيد، وعكست المعنى، مما ادى إلى أدانها، واعُتبرت اساءة مقصودة منها، والقصة تعتبر نقد لاذع لمن يدعون الوطنية الزائفة، بينما هم يسيئون للوطن والمواطن، ويعيثون الفساد بهذا الوطن.

(6)

   صدرت هذه المجموعة القصصية للقاصة تماضر كريم عن “دار السرد” في بغداد لعام 2024، وهي من القطع المتوسط وعدد صفحاتها 134، واحتوت على ست وعشرين قصة قصيرة.

عاجل !!