اللغة كيان الأحياء جميعا، تتعدد مستوياتها وطرق التعبير بها، وأساليب أدائها. عرفت من اللغات ما عرفت.. وعشقت أصولها فهي تجسد الطبيعة. والطبيعة حية، فإن ماتت اندثرت.. وكالإنسان الميت، قد يسمع وقد ترى روحُه لا عينُه، بل قد ترى عينُه وهي مغمضة، ولكنه ميّت فقد ماتت طبيعته، مات نطقه، ماتت لغته. واللغة الأم – صوتا وأصلا – تتلامح في هذا الجمال المتجلي في أكثر اللغات ارتباطا بأصولها وهي اللغة العربية، بلا انحياز، فلا مصلحة لي بالانحياز ولا بعدم الانحياز، وإن هي إلا حقائق الأمور. هذه السطور تفسّر للقارئ الكريم إعجابي بقصيدة (مَن المائسات) للشاعر حمد الراشدي، فهو معنيّ جدا بالتركيب اللغوي المنضبط بإيقاعات الخليل. وهذه القصيدة على بحر عويص يقترب من النثر، إلا إذا استطاع الشاعر ضبط مساره بالنغم هو (البحر المضارع) بتكرار (مفاعيلُ فاعلاتن) ولو كانت (مفاعيلن فاعلاتن) لهان الأمر بعض الشيء. موضوع القصيدة عن الصبايا في عيد أراده الله عيدا سعيدا، فهنّ يتمايسن بحياء، قدودا ورشاقة، مما يجعلنا نرى أنهن في كفراشات تُسعد بهن الزهور ويُسعدن بالزهور. فيتساءل الشاعر عنهن: مَنِ المائساتُ قَدّا سَلَبْنَ العقولَ رُشْدا نَشَرْنَ العَبيرَ عِطْرًا بِفَوْحِ الرّياضِ وَرْدا؟ البيتان متكاملان يضعان مهادا لعلاقة الشاعر (بهنّ) أما مَن (هنّ) فلا نعرف عنهم إلّا أوصافهن التي يتكامل البيتان بها من أكثر من ناحية، الوصف، وصياغة التعبير.
أما الوصف فهن (مائسات القدود/ سالبات رشد العقول/ ينشرن عطر العبير ممتزجا مع فوح الورد) وهذا الوصف نفسه مؤدّى بتركيب لغوي متماثل. فهو في النثر مضاف ومضاف إليه وفي الشعر ذهب التركيب إلى النصب على التمييز، وهذا النصب على التمييز أضفى على الوصف عمقا وموسقة. والفرق بينهما كما تقول لصاحبك: أنت صائم النهار قائم الليل، وقولك: أنت: نهارك صائم وليلك قائم. الأول تعبير عام يشترك فيه جميع الصائمين تقريبا، وأما الثاني فيجرد صاحبك من كل شيء إلى الصيام والقيام. مبالغة جميلة أنيقة (للتوسع انظر: التنمية اللغوية في التداوليات والخطاب -نيبور 2022). ولا يكتفي الشاعر بهذا الوصف فهن يستحققن منه السلام والكلام، على شأن المحبين والعاشقين، فيبدأ مما تعوده: السلام عليهن: وقُلْتُ السّلامَ أُهْدي فقُلْنَ السّلامَ رَدّا ولٰكنْ على حَياءٍ كحُنْوِ الغُصونِ مَيْدا هكذا إذن أيها الشاعر تبحث فيهن عن الحياء أيضا، كما بدأتهم بالسلام لا (مرحبا ولا أهلا وسهلا). وبالرغم من ذلك أراد الردّ نديّا بسبب العيد ولِلعيدِ كُنْتُ أُزجي تَهانٍ يَعودُ أنْدى ثم يلجأ إلى الجناس بين السُّعد والسّعد. بِرسمِ القُلوبٍ سُعْدًا وعيدٍ يكونُ سَعْدا وزيّ العيد يُسدى (أي يُخاط أو يُحاك) بلون الزهور وعيدُ الحِسانِ ثَوْبٌ بِلَوْنِ الزُّهورِ يُسْدى كأنَّ الذي أَمامي أقاحٍ تحيط نَرْدا وكانَ الجَمالُ يَحْكي حكايا البدور سَرْدا ولَحْظُ العُيونِ وَمْضٌ وسَهْمٌ رَمىٰ فأرْدىٰ ثم ينتقل الشاعر إلى الحوار وهو مقصده الوحيد في الذي يبدو، وهو ما طالبنه به: فَلمّا سَألْتُ لُطْفًا سِجالَ الحَديثِ وُدّا رَدَدْنَ الجوابَ شَرْطًا حَديثًا وليسَ بَعْدا وقُلْ ما تَشاءُ بوحا ودَعْ للخَيالِ وَعْدا فُقُلْتُ الحِوارَ أبغي ولا شَيْءَ مِنْهُ أجْدى ثم ينطلق الحوار.. والحف أن القصيدة طويلة يمكن متابعتها في مظانها، في الموقع الشبكي للشاعر، وأعتقد كل تلخيص لها أو لتركيبها اللغوي العروضي في مقال صحفي أو إعلامي في وسائل التواصل، أقصر من أن يُكشف عن ملامحها البلاغية والفنية، خاصة ما تضمنته القصيدة من قيم أخلاقية تتمثل في النظر إليهن كيانا إنسانيا لا دمًى ملوّنة: فنَحْنُ النِّساءُ أُسٌّ حفظنا الأساس أُيدا وفي الكَوْنِ ذا عُدولٌ وليسَ العُدُولُ وُسْدا أيا عيدُ عُدْ مَديدًا على الحافظينَ عَهْدا وهذه القراءة العجلى للقصيدة لا تُغني أبدا عن العودة إليها ولا مثيلاتها بالدرس الفني والتحليل الشامل للشكل والمضمون.