في عالم الأدب الذي لا يتوقف عن إبهارنا بتجديده وجرأته، تطل رواية “صلاة القلق” للروائي المصري “محمد سمير ندا” كعمل استثنائي حصل على جائزة البوكر لعام 2025، ليضع كاتبه في مصاف الأدباء العالميين الذين يغامرون بتجريب أشكال سردية غير تقليدية. الصادرة عن دار “ميسكياني” التونسية عام 2024، تقدم الرواية بمزيجها من الواقعية المريرة والفانتازيا المظلمة، رحلةً عميقة داخل أعماق قرية مصرية تحمل أسرارا مروعة تحت عباءة التاريخ والسياسة. فكيف استطاع الكاتب أن يحول “نجع المناسي” إلى مسرح لأحداث غريبة تتراوح بين الواقعي والماورائي؟ وما الذي يجعل هذه الرواية جديرة بالمنافسة على أرفع الجوائز الأدبية؟
*الألعاب السردية: من الواقعية إلى ما بعد الحداثة
تبدأ الرواية بلمسة واقعية واضحة، حيث نتعرف على “نوح النحال”، موظف بسيط في “دائرة الشهر العقاري”، القادم من قرية “نجع المناسي” في صعيد مصر. يحمل نوح في داخله سخطا خفيا على نظام “عبد الناصر”، لكنه يحتفظ به لنفسه خوفا من العواقب. تتحول حياته رأسا على عقب عندما يعتقل بتهمة “مجالسة صديق متهم من قبل الامن بأنه من جماعة الإخوان المسلمين”، ليتعرض للتعذيب حتى يجبر على الاعتراف بما لم يقترفه.
*التحول السردي
هنا، يبدأ التحول السردي الكبير فبعد عودة نوح إلى قريته، تتحول الرواية من سرد تقليدي إلى لوحة “ما بعد حداثية” معقدة، حيث تتعدد الأصوات السردية وتتوزع الأحداث بين 11″ شخصية”، لكل منها حكايتها المظلمة وصراعها الخاص. من “أيوب المنسي” (رجل الدين المنافق) إلى “خليل خواجه” (ممثل الحكومة الفاسد) وابنه “حكيم الأخرس” (الذي يقطع والده لسانه ليخفي جريمة قتل أمه)، وصولًا إلى “شواهين الغجرية” التي تغوي رجال القرية، و”محروس الدباغ” المتهم باغتصاب ابنته المعاقة تحت تأثير الأفيون واخرون.
*عتبة العنوان: صلاة لم يصلّها أحد من قبل
يأتي عنوان الرواية “صلاة القلق” كإشارة إلى “صلاة وهمية”، اخترعها أهل القرية بعد سقوط نيزك قريبا منهم، وانتشار وباء “الجذام” الذي يفقدهم شعرهم ويغمرهم بالخمول والقلق الدائم. هذه الصلاة، التي لا وجود لها في الدين، تصبح طقسا جماعيا يعكس “الهلع الوجودي” لشخصيات الرواية، وكأن الروائي يشبه نكبة 1948ونكسة حزيران 1967 مثل النيازك او الطاعون او الجذام! بينما تتحول القرية إلى فضاء مغلق أشبه بفيلم “القرية” الأمريكي، حيث يحكم كبار السن السيطرة بإثارة الخوف من كائنات خيالية.
*ثيمات الرواية: بين التاريخ والتابوهات
لا تكتفي الرواية بسرد الحكايات الفردية، بل تنسج خيوطا بين “الذنب الجماعي” و”القمع السياسي”، حيث تلام شخصيات الرواية على مصائبها، بينما يظهر نظام عبد الناصر كخلفية قاتمة تزيد من معاناتهم. كما تستحضر الرواية تقنيات سردية من أدب “غابرييل غارسيا ماركيز”، خاصة في مشاهد “الفضائحية”، حيث تكتب أسرار الناس على جدران منازلهم كعقاب علني.
الخاتمة: لماذا تستحق “صلاة القلق” جائزة البوكر؟
في النهاية، تظل رواية”صلاة القلق” للروائي المصري محمد سمير ندا” رواية تستفز القارئ بجرأتها السردية وعمقها الرمزي. فهي لا تقدم مجرد حكاية، بل “تشريحًا لواقع مأزوم” عبر شخصيات معقدة، تتراوح جرائمها بين “الخيانة والكذب والقتل والانحطاط الأخلاقي.” ببراعة، يحول “محمد سمير ندا” القرية المصرية إلى “كون مصغر” تعكس فيه كل علل المجتمع: من “الفساد السياسي” إلى “القمع الديني” و”الانفصام الأخلاقي”.
ربما يكون السر الأكبر في فوز الرواية بالبوكر هو قدرتها على تحويل “القلق الإنساني” إلى فن أدبي مكتمل، حيث يصبح الخوف من المجهول “صلاةً لا تنتهي”. فهل نجد في أعماق هذه الرواية مرآة لمخاوفنا الحديثة؟ سؤال يتركه الكاتب للقارئ، كإرث من القلق الذي لا ينتهي عند آخر صفحة.