المراثي ، وبسعة من تداولها ، من الخاصّة ، وعامّة من الناس ، حِزم من مشاعر ، مبطنة برداء الفقد ، قد تكون المرثية اعلى حالات التجلي ، والتماهي مع حادثة الفقد ، ومسببات تغييب الآخر ، إن كان بضعة من المُرثي ، وبتجسيد مُر بغيابه ، اخا ، صديقا ، حبيبا ، او إبنا ، وقد تكون المراثي تُطال حتى الخصم ، او الذات ، وتلك من فرادة المراثي .
هذا ما جسدهُ الشاعر الخزعلي بمرثيته بمقتل ولده وحفيدته ، بحادثة مصعد الإسكندرية ! ليواجه حزنه ، ومكابداته الحرى ، بقوة الشعر ، كأداة لتغليب ضعف الشاعر بغياب بضعته ، إنه رثاء بحجم شاسع وموجع ، يأتيه بشهر نيسان ” وكما اشار اليه بشهر الاحزان ، لينزوي ، بذات فجيعته ، وهو يُبصر بعضا منه مسجى بين مسافة الغياب ، ومسافة وصول الجثمان ، ليعتلي منصته التي لا يراها سواه ، وبظُلمةٍ كتب لها القدر آخر سطر في نعش فقيده .
وبزمن فقده لولده كان الشاعر الخزعلي ، قد اتاح للشعر ، وفي أحلك حالاته من ان يتسرب لروحه ويفيض بها حزنا ، ثم يرسخه بقصائد تستغل فاجعته ، وتطمر ارتباكه ، ليُعلن فاعلية الشعر لإفساد سلطة الموت .
بمفتتحه من مجموعته الشعرية ” معتز يرسم الهبوط ” للشاعر والناقد ريسان الخزعلي ، وبعنوان ساند ” تنويعات مرتبكة ” يستهل مرثيته بمقطع من ديوان ” الارض اليباب ” لإليوت ” نيسان ، اقسى الشهور .. ليس وهماً … ايقنتُ أنك تقصدني ايضا يا إليوت ” هذا المفتتح جاء بعد اشارة للشاعر ادونيس ومن احدى قصائده حيث يقول : ياخذنا الموت دون ان نراه ، وكأن هذا المنتصر ابدا ، هاربٌ ابدا ..” ومن الشاعر رعد عبد القادر يستدعي مقطعا من احد قصائده : الإبن ، نونٌ زائدةٌ في الأب ، الأب .. نونٌ ساقطةٌ من الإبن ..”
أتت المجموعة ، بتنويعاتها ، بمجحوعة قصائدها ال55 والتي تداخل فيها الشعر الشعبي بالتوازي مع شعر النثر والتفعيلة ، ليقدم رؤيته لفاجعته بفقد ولده وحفيدته بحادثة المصعد التي أودت بمقتله وسط الاسكندرية بمصر !
يقول في احدى تنويعاته : برهان لقول الله : كن سعيدا يا معتز ، فقد كنت برهان قول الله ، وما تدري نفسٌ بأي ارضٍ تموت ” .. وبتنويعة أخرى يقول : في الاسكندرية كان البحر قبالتك ، هل حددت اتجاه القبلة ..” وفي مقطع لتنويعة اخرى وبهتاف ساخن وبروح ملتاعة لا تختصرها سوى صيحات قلب مكسور : العمر شجره ، شجره ، أو ما علت عالگاع ، واتخيطت عله الطين ، موش تخيطّت بابره ..” وباخرى يقول : الافضلية يا معتز .. لست الافضل من قتلى وطنك ، لكنَّ الموجع لم تُقتل في وطنك ..” وفي اخرى يشير للموت بجرأة فاقد بضعته : جية الموت ، مامش صوت ، معتز سِمع موته ، أو شافهَ گبل الموت ..”! ويظل الشاعر يلهث بحزنه ، وبمواجهة سلطة فقده الجلل ، حيث يقول : في لمسة التابوت ، صافحت يدي ..”
لتتعدد مداخيل الشاعر بخطابه الشعري ، برثاء ولده ، يستجمع قواه ” وقوة الشعر ” لإسناده بمحنته ، وبأسه ، برغم حطامه !
إن هيمنة الحزن ، بمتوالية قصوى بغياب من يُكمل سيرة الشاعر ، كوجود مستل من إيمانه بما قدم ما يشبهه ، وما سوف يحفظ له امتداده ، في الحياة ، ومتطلبات اشتغالاته بمناطق الجمال ، والرفعة ، وسمو الأهداف والمآل ، لكنه الموت ، والذي جاء على ذكره بمجمل قصائد المجموعة ، كتحدي ، وكنزاع بينه والموت ، ليتخذ لنفسه موئلا محميا ، بسلطة الشعر ، كي يقاتله باسلحة لا يدركها الموت ذاته …